”خفيفةٌ روحي، وجسمي مُثْقَلٌ بالذكريات وبالمكان“
– محمود درويش.
للأماكنِ نصيبٌ في ذاكرتي أكثر مما لغيرها؛ يصنع عقلي روابطَ قويةً بينها وبين الأحداث غالبًا ما تنجو، على غير عادة الأشياء، من تأثير الزمن.
لم أكن طفلًا يحب التسكع واللعب في الشوارع، لكن التنقل بين أماكن العالم المختلفة، جالسًا أمام حاسوبي، كان واحدًا من هواياتي المفضلة.
ورثت تلك الهواية عن أبي. كان يقضي كثيرًا من وقته في تصفح برنامج الخرائط المعتمد على الأقمار الصناعية. لا أعلم إن كان الأمر هوايةً من هواياته أو ضرورة من ضرورات عمله.. المهم أنني فُتنت بذلك.
قضيتُ كثيرًا من وقت طفولتي في مشاهدة صور مأخوذة بالأقمار الصناعية لكوكبنا، وتجربة مختلف البرامج والطرق لتصفحها.
كانت تلك هي نافذتي التي أرى من خلالها العالم، وللمفارقة، ورغم حبي الشديد لمشاهدة مخططات العالم الجغرافية، إلا أنني لم أكترِث بمعرفة أسماء أي منها، ولا أعرف في أي القارات تقع أي البلاد.
بل وكنت بالكاد أحصل على درجة النجاح في الجغرافيا. لم أذاكرها في حياتي إلا ليلة الامتحان. وأكرهُ الأستاذة ناهد، مدرسة الدراسات الاجتماعية، كرهًا لا تشوبه شائبة.
عودةً إلى برامج الأقمار الصناعية:
صادف، في مرة من المرات، أن ألتقط القمر الصناعي صورةً لحيِّنا لحظة وقوف سيارتنا في المكان المعتاد لوقوفها، فظهرت على البرنامج حين تصفحته. كنتُ أفتح البرنامج بشكل شبه يومي، فقط لأتأكد من وجودها.
ظلت السيارة موجودة حتى التقطوا صورًا جديدة مع التحديث الدوري. غضبتُ بالطبع من حذفهم صورة سيارتنا.. شخصنتُ الأمرَ مع القمر الصناعي اللعين. أتصور أنها كانت المرة الأولى التي أدركت فيها ديناميكية العالم عن هذا القرب. لا شيء يظل ثابتًا. لا حال يبقى.
صحيحٌ أنهم كانوا يحتفظون بأرشيفٍ للنسخ القديمة تستطيع تصفحه متى شئت، لكن تمسُّكك به يحرمك من رؤية ما يجد؛ يحبسك وحيدًا في نسخةٍ من العالم لا أحد فيها سواك.
كبرت، وكبر معي حبي للتسكع بين الحين والآخر، ڤيرشوالي، في الطرقات، وتطورتِ البرامج، وأصبحت التجارب أكثر تفاعلية وواقعية.
لا أتذكر أني فُتِنتُ بشيء قط كفتنتي بـ برامج الخرائط وتطورها المستمر. صحيحٌ أنه نفس التطور الذي محا أثرنا من صور العالم، بحذفه صورة سيارتنا من الخريطة، إلا أنه، على بجاحته وقبح تصرفه، ضروري، وللأسف، مسلٍّ.
تطورت تكنولوجيا مراقبة العالم، وتدهور العالم؛ يفوق كل تحديثٍ ما قبله في واقعية صورته ورداءة واقعه.
دخلتُ الجامعة، وانتقلتُ للعيش في مدينة جديدة.. شوارعها فاتنة.. أشجارها خلابة.. أحببت بسببها التسكع في الطرقات، والمرة دي ليترالي مش ڤيرشوالي.. أصبح الأمر عادةً يومية.
بين الفتى الذي كان يقضي الساعات أمام حاسوبه متصفحًا صور العالم، والآخر الذي استبدل الصور بالمشي في الطرقات، ذاكرةٌ تربط كل شيءٍ بمكان.
الفرح.. الحزن.. اليأس.. الأمل.. اللقاء.. الفراق.. تلقي الأخبار، سعيدها وحزينها.. أحداث حياتي جميعها، بمؤثرها وتافهها، مربوطة في ذاكرتي بالأماكن.
والعالمُ شوارعٌ فرحت فيها بأشياء بكيت عليها بعد حين، وشوارع أخرى بكيت فيها على أشياء فرحت بها بعد حين. نفس الأشياء، ونفس الشوارع.
أتذكر أنني في فترة من أكثر فترات حياتي حيرةً، كنت مضطرًا لأخذ قرارٍ مصيريّ محيّر. حيرةً لم تسعها جدران المنزل. ذهبتُ لأتمشى، وبعد وقت طويلٍ، مضى في إنهاك عقلي وقدماي، أخذتُ القرار، وأجريت مكالمة تأكيده.
عدتُ لمنزلي حاملًا خوف العالم. مرّت الليالي، وتم الأمر على خير. حين عدت إلى الشارع الذي تمت فيه المكالمة مرة أخرى، بكيت فور دخوله إذ تذكرت تفاصيل اليوم. نفسه الشارع الشاهد على خوفي يشهد فرحتي.
تخلقُ الأماكن فيّ حنينًا إلى المستقبل! أتعجب من هذا دائمًا! حُقَّ للحنين أن يكون لماضٍ عشناه لا لمستقبلٍ لم نختبره!
تحل معي أسئلتي أينما حللت وارتحلت؛ ماذا سأتذكر عن حياتي الحالية إن عدتُ للمكان نفسه بعد سنوات؟ كيف سيكون حالي وقتها؟ وكيف سيكون حال هذا المكان؟ هل ستبقى تلك الشجرة؟ هل سيصمد هذا البناء المتهالك؟ في أي عامٍ دراسي ستكون تلك الفتاة المارة حاملةً حقيبة المدرسة؟
همم، لحظة.. ما مصدر رائحة الطعام الشهية هذه؟ أدعو الله أن يحمي هذا المطعم الذي تخرج منه تلك الرائحة من أثر مرور الزمن فيصمد للأبد.
أتذكر الشوارع الشاهدة على قلقي، ورجائي، وفرحي، وبكائي.. على أملي وخيباته.
أتذكر الشارع الذي قطعته هرولةً في طفولتي لأني توهمت شبحًا خرج من الظلام يطاردني، أتذكر الكيلومترات التي قطعتها بدرجاتي في أوقات حزني مفضلًا فناء طاقتي بإرهاق جسدي بدلًا من استنفاذها في البكاء.
أتذكر الشوارع التي ألفنا فيها القصائد الهزلية أنا وأخي، والشوارع التي ضحكت فيها أختي.
أتذكر الشوارع التي مشيناها سويًا في مقابلتنا الأولى وأطلقنا عليها أسماءً تخصنا، والشوارع التي مشينا فيها في لقاءنا الأخير، لا يجمعها غير أنني ”خاصمت الشوارع اللي مشينا فيها“.
في قصيدته الشهيرة، وواحدة من قصائدي المفضلة، يقول صلاح چاهين ما أحاول قوله؛ أن ”الشوارع حواديت، حوداية الحب فيها، وحوداية عفاريت“..
وأن الشارع الذي سكنّاه قديمًا، ضاق علينا وكبرنا عليه، ولم يعد لنا فيه مكان..
”والشارع دا شُفتِك أنتِ ماشية فيه“..
”والشارع دا رحنا فيه المدرسة، اللي باقي منه باقي، واللي مش باقي اتنسى“..
هكذا يقول چاهين، أن ما محاه الزمن من الشوارع قد نساه هو إلى الأبد..
وهنا اعتراضي الأول على قصيدته: أنني، لسوء الحظ وحسنه، لا أنسى.
لديّ أرشيفٌ أستطيع تصفحه متى شئت، بل وأحيانًا، أتصفحه مجبرًا، فلا يمحو الزمن من الذاكرة ما محاه من الواقع.
واعتراضي الثاني، أن الشوارع حواديت، حوداية الحب فيها، ولكن ربما يكون، في نفس الحوداية، عفاريت.
أمرّ على الأماكن حاملًا حنين الماضي، صانعًا نسخًا تخيلية عن المستقبل، متأملًا حاضر المكان وحاضري، آملًا أن يكون أثر الزمن علينا أثرًا يسعدنا ونحمده كأثره على الشارع الذي اتخذت فيه قرارًا حمدته فيما بعد، لا يغضبنا فنلعنه كتحديث صور القمر الصناعي الذي حذف صورة سيارتنا من الخريطة.