⁠الخامسة عصرًا
٦٢١ كلمة

يسألني أحدُ زائري المكتبة عمّا إذا كانت هناك أي فرص للعمل. يريد أن يعمل بائعًا للكتب. يتحدثُ باندفاع الشباب، بحماسِ مَن لا يعرف. ألمحُ في عينيه محبةً صادقةً للكتب والقراءة. أشفقُ عليه، وأتمتم: لا يكفي! أحاولُ دفعه للبحثِ عن عملٍ آخر كي لا يكره ما يُحب أو يصيبه الإحباط، لكنه يصرُّ في سؤاله ويلحُّ في طلبه.

أتذكر منذ سنوات رغبتي القوية للعمل في هذا المجال. أستعيد تصوراتي المثالية عن عالمِ الفن والثقافة، ثم إدراكي، مع مرور الوقت، أن الأمر ليس كما تخيلت، أي شخص عمل في هذه المهنة، يعرفُ أن الكتب، أولًا وأخيرًا، سلعة. يجب أن تُباع، مثلها مثل الملابس والأحذية.

عرفت ذلك بأكثر الطرق الصعبة. عندما وصلت المجموعة القصصية الجديدة للدكتور محمد المخزنجي، واحد من كُتابي المفضلين، إلى المكتبة التي كنت أعمل فيها وقتها. بدأتُ في قراءتها وترشيحها للكثير من العملاء الذين يثقون في رأيي. لاحظ مدير المكتبة هذا التركيز على كتابٍ، لا يهمه نوعه أو اسمه، لكن تكلفته تقل عن مئتي جنيه؛ قال لي بفجاجةٍ لم أحتملها:

”يعني أنت لما تبيع كتب رخيصة، هنقبض إزاي آخر الشهر؟!“

صحيح.. هنقبض إزاي آخر الشهر؟

منذ ذلك الحين، ازدحم رأسي بأسئلةٍ كثيرة تتعلق بواجبي. قارئ بالأساس وبائع للكتب بحكم المهنة. أرى أن دوري لا يقتصر على البيع والربح فقط، لكن أن أوجِّه القارئ إلى ما قد يُغيِّر فيه شيئًا صغيرًا، لكنه حقيقي.

غير أن هذا التصور لم يكن منسجمًا مع حسابات المدير؛ كنتُ أسأل نفسي: هل أستسلم لمنطق الربح لأضمن البقاء في العمل، أم أتشبَّث بما أؤمن به مهما كان الثمن؟

والأهم: هنقبض إزاي آخر الشهر؟

أرغبُ هنا في التوقف للحظة.. مهنة بيع الكتب، وربما المبيعات عمومًا، تحتاج إلى مجموعة من المهارات الأساسية التي يعتمد عليها البائع أثناء وجوده في المكتبة؛ فمن الضروري أن يكون بائع الكتب مطَّلعًا جيدًا، وقادرًا على فهم نوع العميل والطريقة المناسبة للتواصل معه، وعارفًا بأماكن الكتب وترتيبها وتصنيفها.

جدير بالذكر، أن كل مهارة من هذه المهارات تكمِّل صاحبتها، فلا يمكن أن تُغني واحدة عن أخرى.

كنتُ أعرفُ أنني أملكُ هذه المهارات التي سبق أن ذكرتها، لذا قررتُ استغلالها قدر المستطاع، ولا أدَع الإحباط يتملكني؛ أدركتُ أيضًا أنه ضرورة لأن نوازن بين الطابع التجاري للمكتبات والدور الثقافي والتوعوي لبائع الكتب إن كان لهذا الشيء وجود. هذه هي الدنيا.

عندما حدث ما حدث في السابع من أكتوبر، شعرتُ بارتباكٍ شديد، ورغبة جارفة في أن يعرف الناس تاريخ هذه القضية، وكيف بدأ الصراع. قلتُ لنفسي: «هذا هو دورك شئت أم أبيت». في اليوم التالي، جمعتُ كل الكتب المتاحة التي تتحدث عن فلسطين، وكل ما له صلة، فوق ترابيزة واحدة في منتصف المكتبة، وبدأ الكثير من العملاء في التوقفِ أمامها، وسؤالي عن هذه الكتب ومحتواها وعلاقتها بما يحدث!

ما يحدث في العالم من حولي حرّكني، وهذه الحركة أنتجت تفاعلًا بيني وبين العالم من حولي. هذا التفاعل كان له آثاره. لاحظ مدير المكتبة أن كتب التاريخ تتحرك بكثرة هذه الأيام، وأن مبيعاتها تزداد كل يوم.

اقترحتُ عليه أن نناقش كتاب «عن فلسطين» للمؤرخ اليهودي إيلان بابيه وعالم اللغويات والناشط السياسي نعوم تشومسكي في نادي الكتاب الشهر القادم، ووافق المدير فورًا بمنطق أن هذه المناقشة ستدر الربح على المكتبة.

أذكرُ في ذلك اليوم أن عددًا غير قليل من جنسيات مختلفة اهتم لحضور المناقشة ليسمع ويشارك رأيه، وأبدى مدير المكتبة سعادته بما حدث.

ربما يظن بعض الناس أن مهنة بيع الكتب ليست بهذه الأهمية، لكني أرى أن بائع الكتب أشبه بالطبيب أو الصيدلي الذي يستقبل مرضاه، فيصغي لهم، ثم يصف ما يناسبهم من دواء. وما يجعلني أقول إن هذه المهنة تستحق العناء فعلًا، هو ما تفعله الكتب في لحظة ما داخل القارئ: ذلك التحول الصغير الذي يصعب قياسه.

عندما أصرَّ ذلك الشاب في سؤاله تدفقت في رأسي كل هذه الذكريات والأفكار التي عشتها بين رفوف الكتب، وكل تلك الأسئلة التي لم أجد لها جوابًا بعد. نظرتُ إليه طويلًا، ولم أقل شيئًا؛ فقط ابتسمت وأنا أراه يكرِّر بدايتي نفسها. تركته يمضي دون تحذير.

بعض الطرق لا تُفهَم إلا حين تُسلك.

شارك هذا الـمقال