عامان أمضيتهما في التذمر من بؤسي في العمل بمجال الأخبار، وأن أول ما سأفعله في الغد هو ترك المجال بأكمله. لم يأتِ هذا الغد إلا في الثانية مساء يوم أحد، عبر إيميل ضمني مع قرابة أحد عشر من زملائي، ذُكر فيه أمر ما يتعلق بإعادة هيكلة المكان، ويخبرنا بأننا الآن بلا عمل.
لم يعد يتوجب عليّ الاستيقاظ باكرًا ولا التحضير للاجتماعات، ارتبكت. تمسكت لسنوات بأمان وظيفي، وعرّفت نفسي من خلال عملي، يكاد يكون هو كل ما أتحدث عنه. ماذا الآن؟ لا فكرة لدي.
فقط أتمنى لو توقف الآخرون عن الاستفسار ”لقيتي شغل؟“ فبقدر امتناني لاهتمام المتسائل إلا أني لسبب ما تملكني الخجل، فحديثي عن رغبتي بتمضية وقت لا أفعل فيه أي شيء عدا نشاطي المفضل: التحديق بالسقف، قوبل بنظرات آسفة.
حداد

أسف من نوع آخر يظهر في لوحة “Unemployed” (عاطل عن العمل) للفنان السويسري فرديناند هودلر على هيئة رجل في منتصف العمر غارق في خواطره، بثياب سوداء لا تتناسب مع خلفية من الأعشاب الممتدة، يبدو خارج المشهد وكأنه منبوذ، في حالة بين الإنكار والمساومة والحداد، ينطوي على نفسه بكبرياء منكسر.

لن يتوقف هودلر عن رسم رجال على حواف الانهيار، من البطالة وغيرها. ليتخذ “The Disillusioned One” (المحبط) في لوحة أخرى نفس جلسة العاطل وإن بدت عيناه وتفاصيله أكثر انغلاقًا. لم يكن هؤلاء الرجال ليظهروا على الأرجح لولا الحاجة المجتمعية لربط هويتنا بعمل أو بإنجاز ما، للنظر إلينا من خلال أدوار في سوق متغير، ننغمس في وظيفتنا وننهزم أمام أي تقلبات مؤقتة كانت أم لا.
كان العمل هو كل شيء بالنسبة لمستشارة إدارية تدعى جلوريا شانباكر حتى أصيبت بصداع مزمن لم تفلح معه أية محاولة للعلاج. هكذا تحتم عليها أخذ إجازة، لتشير في بودكاست:
”أمدني العمل بإحساس بالاستقرار العاطفي والأمان لدرجة أني بدونه أدركني الضياع. نحن لا نتعلم تحديد قيمتنا الذاتية، يظل الأمر غامضًا، ونربطه بما نفعله لكسب قوتنا، أتعرف، لا أدري حتى كيف أخوض حديثًا عن نفسي دون أن أتكلم عن عملي.“
العمل — بحسب شانباكر — قد يصبح منبعنا الوحيد الذي نعتمد عليه لنتأكد من استحقاقنا وجدارتنا، والإفراط فيه أحيانًا ما يكون طريقتنا في تعويض عاطفة أو تشتيت أنفسنا. بهذا يؤدي الانقطاع عنه لسبب أو لآخر لتحريك رد فعل غريزي فينا يهمس لنا بأننا أخفقنا أو ”سأكون بلا فائدة، لن يحبني أحد.“
دعاه الكاتبان أوبرا وينفري وآرثر سي بروكس في مقال لهما في مجلة التايم بـ ”تشييء الذات في العمل“، وهو ما يحدث عندما يعامل مدير موظفيه كعمالة يسهل الاستغناء عنها، أو العكس: موظف يرى أرباب عمله مجرد آلة لضخ المال، في الحالتين يُجرِّد أحدهما الآخر من إنسانيته.
يقولان إننا أحيانًا ما ”نشيّئ أنفسنا“ بتقييمنا من خلال مظهرنا الجسدي، أو رواتبنا ووضعنا الاقتصادي، أو آرائنا السياسية، فنختزل إنسانيتنا في صفة واحدة، مثل: ملكة جمال، ويرانا الآخرون بالتالي بعين ضيقة.
نصبح أسوأ مديرين على أنفسنا ونُقلل من شأنها.
تحطمنا كل هفوة أو انتكاسة وإن كانت زائلة، ونرتجف من احتمالية أننا قد لا نكون ناجحين كفاية، لذا نعمل بجهد مضاعف سرعان ما يستنزف قوانا.
الذين تغلبوا على تلك المعضلة ليسوا أصحاب المناصب الأكبر، ولا من حالفهم الحظ بامتهان عمل أحبوه، بل من عرفوا حدود قدراتهم وشحذوها، ورفعوا رؤوسهم حينما كانوا جلوسًا في لوحات فرديناند، واستشعروا بعذوبة المتع البسيطة ومجاورة من يحبون.
التقيت يومًا بامرأة هندية في محطة الحافلات، روت لي عن عملها في متجر ملابس منذ التاسعة صباحًا إلى التاسعة مساءً. عرّفت نفسها كأم لأجمل فتاة، تنتظر كل جمعة في الأسبوع كي تأخذها معها للعمل وتقضي بعض الوقت برفقتها.
وتعرفت خلال موقف عابر بسائق تاكسي باكستاني عجوز كان ساخطًا، أشرق وجهه فحسب عند ذكر أبنائه والأشياء التي يجيد فعلها وخططه بعد الستين.
أفتش حتى اللحظة عن تعريف لا يضيق بي. بالطبع لن تحول تلك التعريفات بيننا وبين الخسارات، لكن ”لا بد مما ليس له بد“، ولا مفر من أن نحاول.