⁠الخامسة عصرًا
٦٥٢ كلمة

جاوبت على كم سؤال ورفعت سيرتي المهنية. كنت مدفوعًا بالفضول فوافقت على طلب غريب بفتح الكاميرا والمايك لأجد نفسي في مقابلة توظيف مع نموذج ذكاء اصطناعي.

لم تكن سرعة الانتقال من مرحلة ملء الطلب إلى لحظة عقد المقابلة هي ما أربكني.

في 2006 حصلت على وظيفتي الأولى بجريدة الدستور بمكالمة هاتفية واحدة استغرقت دقائق. اتصلت برقم الاستعلامات المذكور في الجريدة، وأعربت عن رغبتي في العمل كمتدرب في الجريدة. أخبرتني السكرتيرة: ”تعالِ الأربعاء الثالثة عصرًا“. وصلت الثالثة عصرًا يوم الأربعاء، لأفاجأ بأنه الاجتماع الأسبوعي لمناقشة الأفكار، وأنني أصبحت جزءًا منه.

سر السرعة في حالة الدستور أن رئيس التحرير المؤسس، إبراهيم عيسى، كان يتبع سياسة الباب المفتوح والخزنة الخاوية… فرصة للحالمين، لكن المقابل معنوي.

لكن الذكاء الاصطناعي ليس وراء بابه المفتوح خزنة خاوية بالتأكيد، بل — في رأيي — التأكيد على فكرة أنها: علاقة عابرة.

في عصر ليس ببعيد، كانت الشركات تخطّط للاحتفاظ بالموظفين طوال حياتهم الإنتاجية، أنت تذهب إلى شركة بنفس عقلية ذهابك إلى علاقة طويلة الأمد. كان من المنطقي أن يُطرح سؤال المستقبل: ”أين ترى نفسك بعد 5 سنوات؟“ في مقابلات التوظيف.

بدأ ذلك مع ستينيات القرن الماضي، دخل الكوكب ما يمكن تسميته بـ عصر التخطيط المهني. الحرب العالمية الثانية انتهت. النظام العالمي الجديد قيد التحميل، لكن هناك بعض المتطلبات، من أهمها أن تخصّص له من وقتك 30 سنة على الأقل.

يبدو هذا طلبًا صعبًا في الوقت الحالي، وصدقني كان كذلك حينها أيضًا، إلا إذا شاهدنا نموذجًا حيًا. ومن أفضل من أمريكا، سيدة العالم الجديد، لتقديمه؟

أعيدت صياغة الطلب في صورة ”الحلم الأمريكي“ القابل للتحقق عالميًا؛ شهادة جامعية تؤدي إلى وظيفة في شركة كبرى، يوفر راتبها أقساط رهن عقاري تمتد — بالصدفة — ثلاثين سنة.

الجائزة الكبرى في سن الستين: بيت خالص الأقساط ومعاش يسدّد بقية الفواتير.

بما أنكم تقرؤون هذا الكلام على هذا الموقع، فأنتم غالبًا تفكرون أنه عرض أهبل. ولأمثالكم من المتشككين وقتها، ظهر عرض آخر، أكاديمي هذه المرة.

في 1959 خرج عالم النفس الأمريكي جون هولاند بنظرية ”الأنماط المهنية“، وفكرتها الأساسية أن الناس والبيئات المهنية يمكن تصنيفهم إلى 6 أنماط رئيسية، وإذا حدث تطابق بينك وبين بيئة عملك، فألف مبروك يا بركة… كسبت حياة مليئة بالنجاح والرضا.

قدمت النظرية دعمًا علميًا لما كان يحدث في أرض الواقع، ولعقدين من الزمن لاقى نموذج ”التوظيف مدى الحياة“ قبولًا عالميًا حتى في الدول غير الرأسمالية.

تصدّع النموذج في الثمانينيات والتسعينيات إثر موجات تسريح جماعية لآلاف الموظفين والعمال.

تعافى السوق بعد ذلك، ولم ينجُ النموذج. ولكننا تعلمنا الدرس: أن التطابق الوظيفي المثالي قد يوفر السعادة لكنه لا يوفر الحماية.

أما عن سؤال ”شايف نفسك فين بعد 5 سنين؟“ فقد أصبح سخيفًا مع دخول عصر الدوت كوم والشركات الناشئة، سريعة التغير والتعثّر. ثم فقد أي معنى له على الإطلاق في جائحة كوفيد، حتى أن ”ميمًا“ انتشر حينها بأن كل الإجابات على هذا السؤال في 2015 كانت خاطئة بالتأكيد.

لكن رغم كل هذا، بقي السؤال صامدًا. مدعومًا بإدمان المديرين لتأثيراته القوية.

لا يمكن لأحد أن ينكر أن السؤال يمنحهم قدرة خفية على كشف خطط النساء للإنجاب مثلاً، وسلطة نادرة لفرض مشهد ”قسم ولاء“ عفوي، يردد فيه المتقدمون للوظيفة — بصوت مرتفع — أحلام الشركة باعتبارها أحلامهم الخاصة.

في 2025، لم يسألني نموذج الذكاء الاصطناعي، في تلك المقابلة العجيبة، عن المستقبل.

بصوت ذكر شاب متحمّس لكن متفهّم، حاصرني بأسئلة عن الماضي تتناول تفاصيل دقيقة في محطاتي المهنية. كنت أظنه يحاول التحقق من المعلومات التي ذكرتها، ثم اكتشفت أنه يريد الاطّلاع على أسرار المؤسسات التي عملت بها. ورغم حرصه على جمع أكبر قدر من المعلومات، كان يتقبل رفضي الإجابة بتفهّم كامل، ثم ينتقل إلى سؤال لا يقل إزعاجًا.

كما حدث في الستينيات، لكن دون بحث علمي كافٍ أو حتى تغليف إعلاني براق، يتغير العالم.

صحيح أننا نشهد عملية تنصيب نظام عالمي جديد، لكن لا تغرنكم الملحمية المصطنعة، فأوقات التنصيب هي الأكثر هشاشة في عمر أنظمة التشغيل.

وفي قلب نظام التشغيل الجديد، ذكاء اصطناعي لا يمتلك رؤية للمستقبل ولا يهتم حتى بالسؤال عنه. تهمه الـ Data.

ربما يكون هذا هو الوقت الأنسب لـ تأميم السؤال.

ربما حان وقت أن نسأل نحن أنفسنا:

أين نحب أن نكون؟

وكيف نحب أن نرى العالم… بعد 5 سنين؟

شارك هذا الـمقال