⁠الخامسة عصرًا
٩٢٥ كلمة

فكرتان متناقضتان:

١ – لم تعد لدينا رفاهية المشي في الشوارع.

٢ – يحتاج الإنسان عمومًا، وبحسب أبحاث علم الاجتماع، إلى ما لا يقل عن أربعة أمتار مربعة من المساحات الخضراء. وحتى لو قررنا خفض سقف التوقعات، واستخدمنا ”مساحة“ دون أن تكون خضراء بالضرورة، في مدينة صحراوية مثل القاهرة، سنجد أن هذا أمر يصعب تحقيقه.

فكرتان متناقضتان (الجزء الثاني):

١ – تظل النساء مطالبات بالحفاظ على مظهرهن وصحتهن النفسية، ويتضمن ذلك أمورًا مثل التعرّض للهواء النقي، والخروج للشارع، لأن الإنسان عمومًا، كما قلنا، يحتاج ذلك.

٢ – تتعرّض النساء للتضييق عليهن طيلة الوقت؛ التحرّش، والمضايقات اليومية هي تجربة تعرفها كل امرأة في مدننا.

الواقع، مهما كان تفسير ذلك، هو أن الحد الأدنى غير متاح. بل والأسوأ، حين تحاولين أن تجدي لك مكانًا في الشارع.

قد تضطرين لقضاء ساعة كاملة داخل القاهرة — والحديث هنا عن القاهرة بسبب ضيق معرفتي بغيرها — فقط ليصبح الإنسان قريبًا من المسطح المائي الأهم في المدينة: النيل.

أو حتى إحدى الحدائق، التي عادة ما تكون محدودة ومستهلكة من سكان الحي والمناطق المجاورة.

إذا كنت مواطنًا مصريًا لا تنتمي للطبقة المخملية، وإذا كنت امرأة أيضًا إضافة إلى كل ذلك، فغالبًا أنت — من الناحية العملية — لا تملكين خيارات كثيرة أو ”اقتصادية“، مثل صالات الألعاب الرياضية، التي قد لا تملكين أصلًا القدرة على الاشتراك فيها.

ولكن، ماذا تفعلين إذا كانت جميع تقاطعات وجودك كإنسان تقف ضدك؟

أو بالأحرى: إذا كنتِ تعيشين في بقعة من العالم، كامرأة، يُنظر إليها أصلًا باعتبارها مواطنًا من الدرجة الثانية؟

بالتالي، يصبح الحل الوحيد هو التوجه إلى الأماكن القليلة المجانية المتاحة للعامة، ويكون من حسن حظك إن كان عملك قريبًا من أحدها.

الساعة السادسة صباحًا. يوم خميس هادئ كسول يسبق العيد.

أمشي، وأشعر أنني محظوظة بوجودي في حي الزمالك، أستمتع بالهدوء في شوارع خالية. لم يدم ذلك الاستمتاع طويلًا. تبخر سريعًا مع صوت رجل من الواقفين أمام أحد الأكشاك يقول لي: ”إيه العيون دي، يخرب بيت اللي جابك.“ شكرًا على إفساد اللحظة الجميلة أيها الرجل المجهول.

ربما كان هذا من أخف ما قيل لي. اخترت تجاهله تمامًا، محاولة ألا أعكر صفو صباحي. لكن سؤالًا علق بذهني:

فكرت فيما تمرّ به الفتيات يوميًا، وكيف يتعاملن عندما يواجههن موقف مشابه؟

طرحت هذا السؤال في قعدة ستات من شتى الخلفيات الاجتماعية.

قالت واحدة إنها لفترة طويلة تخشى التجول في الشارع قرب منزلها، لعدم اعتيادها على ذلك، ولكنها تشجعت على خوض التجربة والمشي في مكان مزدحم، وبالقرب من دوريات الشرطة، لأنها شعرت بحاجة لأن تتنفس خارج حدود غرفتها.

وبالفعل، ذهبت للتمشية من الضاهر حتى وسط البلد، لكنها واجهت عدة مشاكل:

أولها خوفها من الكلاب، ورغبتها في الاستماع للموسيقى في كلا الأذنين، ما لم تستطع فعله طبعًا، خشية أن يُفاجئها أحد من الخلف.

ولأنها تعاني من فرط اليقظة (Hypervigilance)، فقد لاحظت — في لحظة ما — أن هناك رجلًا يسير خلفها لفترة طويلة، وعندما غيّرت مسارها، ظل يتبعها. اتصلت بأختها وقالت بصوت مرتجف: ”في حد ماشي ورايا بقاله شوية.“ فقالت لها: ”لفّي واجري وراه.“

كانت نصيحة غريبة. ترددت قليلًا لكنها فعلت، ليفاجأ هو ويهرب بمجرد أن واجهته.

تحكي صديقة أخرى، تسكن مدينة نصر، أنها خرجت لتتمشى بجانب حديقة قريبة من منزلها، وكانت تجلس أحيانًا على سور الحديقة بعد عدة جولات، وكانت تشعر — أحيانًا — بانتماء هذا المكان لها. لكن الواقع يصرخ بالعكس؛ من نظرات الناس لها وكأنها لا تنتمي إلى هناك، ونظرات الحارس أو رجال الأمن.

مرور السيارات وضوء المصابيح في وجهها. وصل الأمر لأن تتبعها رجلان حتى المنزل. كل ما استطاعت فعله حينها — من شدة الخوف — هو أن تدخل إلى أكثر من سوبرماركت وتتجول فيه لساعات.

ولتجنب هذا النوع من المواقف، اختارت أن تقتني كلب جيرمان شيبرد لتخيف به كل من يحاول أن يقترب منها أو يتتبعها.

جلست أفكر في مقال كتبه يوسف إدريس بعنوان ”الناموس العام“، وفيه يشيد بسيدة تعرّضت للاعتداء في ميدان عام في الستينيات، فأطلقت النار على المعتدي وقتلته.

كان الحدث صادمًا في حينه، وهزّ الرأي العام، لا بسبب واقعة التحرش، بل لأن ردّ الفعل اعتُبر ”مبالغًا فيه“.

ولو كان فرانز فانون مهتمًا بالقضية النسوية، لكان ربما ضمّن مقولته: ”لا حل للعنف إلا بالعنف“ ليشمل العنف اليومي الذي تتعرض له النساء. أو كما نقول نحن: ”حقك تاخديه من بقّ الأسد.“

لكن، هل الحل فعلًا هو العنف؟

وهل نستطيع أصلًا أن نواجه كل هذا القمع بالعنف، ونحن بالكاد نجد مساحة بسيطة نمارس فيها وجودنا؟

ربما السؤال الحقيقي هو: هل من حقي، كمواطنة، كإنسانة، أن أمارس أبسط حقوقي في التنقل، في المشي، في التمشي دون أن أشعر بالتهديد؟ أو أن أكون مضطرة دائمًا لتبرير وجودي؟

لن أسمح أن تتوقف حياتي بسبب خوفي من التحرش — وهو خوف مبرر — لكن لا بد من وجود حل.

الحق في المدينة، في الفضاء العام، ليس رفاهية. إنه حق إنساني.

أن تتحرك بحرية ومن دون خوف، أن ترى شجرة، تجلس على مقعد، تتمشى على الكورنيش، أو تخرج من بيتك دون حسابات معقدة تبدأ من ملابسك وتنتهي بخط سيرك، هذا كله من أبسط الحقوق.

لكن المشكلة ليست فردية. ليست مشكلتي وحدي ولا مشكلة صديقاتي.

إنها أزمة عامة: أزمة شكل المدينة، وغياب الأمان، وقوانين غير مفعّلة، ومساحات عامة إما مخصخصة أو مهملة، أو خاضعة لسيطرة مجتمع يُحاسب الضحية بدلًا من الجاني.

لا أعرف الحل، لكنني أعرف أننا بحاجة إلى إعادة تعريف علاقتنا بالشارع، بالمدينة، بالمساحة العامة. ولمن تنتمي؟

بحاجة لأن نسأل: لماذا نُضطر إلى التخطيط لمجرد نزهة؟ لماذا ترتبط الحرية بالميزانية؟ ولماذا يُربط الأمان بالنوع الاجتماعي؟

ولماذا يجب أن أكون محصنة بصحبة مجموعة، أو عضوية نادٍ، أو حتى رجل بجانبي لأشعر بـ”الأمان“؟

السؤال الذي يجب أن يُطرح ليس فقط: ”كيف نخلق مدينة أكثر عدلًا؟“

بل أيضًا: ”هل نملك شجاعة المواجهة؟ هل هناك مساحة للمطالبة بالفضاء العام؟ بحرية المشي؟ ولو بشكل تدريجي؟“

لا أعرف حلًا.

ولا أظن أن هناك واحدًا من الأصل.

لكن هذا لا يمنعني من الخطوة الأولى التي أملكها الآن:

أن أكتب قليلًا، وأحكي قليلًا، وأمشي كثيرًا — حتى لو لم تكن الطرق مثالية للمشي.

شارك هذا الـمقال