⁠الخامسة عصرًا
٦١٧ كلمة

في الصباحات الأولى في القاهرة، حين تبدأ أصوات السيارات في العلو بدلًا من زقزقة العصافير، وقبل أن يفيق الجسد تمامًا، وجدت نفسي أمام عادة جديدة غيّرت إيقاع يومي.
لم تكن رياضة أو تأملًا تقليديًا، بل ثلاث صفحات يوصي بها كتاب The Artist’s Way للكاتبة جوليا كاميرون. صفحات يُطلَب منك أن تكتبها كل صباح بلا هدف سوى إفراغ الرأس و”فك كعبلة“ الأفكار.

في البداية، بدت لي الفكرة عبثية: لماذا أكتب ما لا سيقرأه أحد؟ ولماذا أملأ أوراقًا بكلمات عشوائية وأنا بالكاد أجد وقتًا لألحق بموعد عملي وسط زحام القاهرة؟
لكن شيئًا فشيئًا، صار هذا الطقس مساحة أنتظرها بفارغ الصبر لأحارب الضوضاء الخارجية. وكأنني أقتطع من المدينة دقائق — مؤخرًا امتدت إلى 45 دقيقة — أُعلن فيها حقي في أن أكون ذاتي.

القاهرة: مدينة تسابق نفسها // القاهرة (اسم) القاهرة (صفة)

الحياة في القاهرة ليست حيادية. الشوارع مكتظة، الهواتف لا تصمت، الالتزامات تتزاحم حتى في اللحظات الصغيرة. في هذه السرعة نفقد القدرة على الإصغاء لأنفسنا.
نتحول إلى آلات تُنجز وتتحرك وتنسخ بلا لحظة صافية نسأل فيها:

”من أنا؟ ماذا أريد؟“

والأسوأ أنك لا تستطيع تمييز صوتك الداخلي عن ضجيج محيطك. الصفحات الصباحية جاءت كـ فرملة مفاجئة لهذا الاندفاع.
ثلاث صفحات لا تكتبها لتنتج نصًا أدبيًا أو لتبهر أحدًا، بل لتكسر حلقة الركض المتواصل في القاهرة، التي في نهاية المطاف تدهس روحك وتطمس شخصيتك.

الكتاب والوجودية: الحرية تبدأ من ورقة فارغة

فكرة الصفحات الصباحية تتقاطع مع الفلسفة الوجودية. تحدث سارتر وكامو وغيرهما عن الحرية كعبء:

”أنت مسؤول عن تشكيل حياتك في عالم بلا ضمانات.“

وما هو الدفتر الصباحي إلا مساحة تمارس فيها هذه الحرية الأولية؟ حين أضع القلم على الورق، أختار أن أكتب عن شعور مسيطر، أو حوار لم يحدث، أو أحلام مؤجلة، أو حتى عن اللا شيء. لا أحد يفرض عليّ موضوعًا، ولا أحد يقيم النص. هذه الحرية المطلقة في الكتابة اليومية تذكّرني أن حياتي — مثل تلك الصفحات الثلاث — تنتظر مني أن أكتبها.

والوجودية كتجربة ملموسة هي أن تعيش بوعي وسط الفوضى. الصفحات الصباحية جعلتني أرى هذا المعنى بوضوح بعد أول أسبوع من الممارسة اليومية. لم تعد الحرية فكرة معقدة، بل فعلًا يوميًا متكررًا أنتظره بحب:

”أكتب فأحرر نفسي قليلًا من ضغوط الخارج.“

كيف يمكن أن تُكتب أكثر اعترافاتي هدوءًا وسط مدينة لا تعرف الصمت؟

في رأيي، هنا تكمن قوة التجربة: الصفحات الصباحية لا تطلب ظروفًا مثالية. على العكس، هي اعتراف بأن الحياة لن تهدأ من تلقاء نفسها، وأن الوجود الحقيقي والواعي يبدأ حين تصنع مساحتك الخاصة رغم الفوضى. الحياة لن تمنحك المساحة لخلق مساحتك — هذا دورك أنت.

تحدث ألبير كامو عن عبثية العالم وكيف يمكن للإنسان أن يواجهها بـ التمرد الصغير. ولهذا أرى الصفحات الصباحية كنوع من هذا التمرد:

”ثلاث صفحات ضد العبث اليومي وضد الشعور بأننا مجرد تروس في آلة القاهرة كنموذج مصغر للحياة.“

هل أستطيع القول إني أصبحت شخصًا أفضل؟

مع مرور الأيام لاحظت أن شيئًا بدأ يتبدّل داخلي. وجدت ذهني أكثر هدوءًا، كأن الكلمات التي أكتبها كل صباح تعمل كمصفاة تنظم أفكاري قبل أن أواجه العالم. لم أعد أستيقظ مثقلة بالقلق نفسه، بل أشعر أنني تخلصت من جزء منه على الورق.

الأجمل أن هذه العادة جعلت أولوياتي أوضح وصوتي الداخلي ألطف وسط الضجيج الذي يحاصرني في المدينة. صار أسهل أن أعرف ما يستحق انتباهي وما يمكن تأجيله، وكأن الصفحات تمنحني خريطة صغيرة أعود إليها كلما تشوشت.

مع الوقت، بدأ القلق يتراجع وصار قابلًا للتعامل معه. كنت أكتب مخاوفي بلا خجل، فأشعر أنني لم أعد وحدي في مواجهتها. نفسي معي.

ولأن الكتابة لا تكتفي بامتصاص الهموم، بدأت تفتح أبوابًا أخرى. عندما أكتب أفكاري اليومية أو مواقفي العارضة، تولد فكرة صغيرة لمقال، أو أكتشف نمطًا متكررًا في سلوكي ليس الأفضل لي كشخص.

لم أكن أبحث عن الإبداع، لكنه جاء كعرض جانبي طبيعي حين أفسحت المجال لعقلي أن يتنفس. حين تجلس كل صباح أمام الورقة البيضاء فأنت في الحقيقة تواجه الفراغ ذاته الذي تحدّث عنه الوجوديون:

فراغ المعنى وعبء الحرية، وسؤال: ”لماذا أعيش؟“

شارك هذا الـمقال