⁠الخامسة عصرًا
٧٠٣ كلمة

لا أحد يرى ما تراه. أنت تعمل، تفكر، تتخيل، تطارد فكرة صغيرة كأنها مخلوق حي. لكنهم من حولك لا يلمسون هذا اللهب. لا يشعرون بثقله، ولا بحرارته. يحيّونك من بعيد، يسألونك عن ”أخبار المشروع“، ثم يعودون إلى عوالمهم وكأن شيئًا لم يكن.

وحتى الأقربون — أولئك الذين يحبونك فعلًا — لا يفهمون غالبًا لماذا تُرهق نفسك بهذا الشكل، لماذا لا تنام، لماذا تخاف من التأجيل، أو لماذا تصمت حين لا تسير الأمور كما أردت. هذه ليست وحدة اجتماعية، بل عزلة داخل الفكرة. تعيش في غرفة لا يدري أحد مكان بابها، حتى لو كان مفتوحًا.

في كل مشروع شخصي، لا بد من مرحلة لا يفهمك فيها أحد. لأن ما تبنيه غير مرئي بعد. لأنك تتعامل مع خامات غير جاهزة، مع شعور لم يتبلور، مع احتمالات لا تزال هشة. وفي هذه المرحلة، تبدو كأنك تتكلم بلغة لا يسمعها أحد، ولا حتى أنت.

العزلة هنا ليست اختيارًا، بل أثرًا جانبيًا للشغف المتجه نحو المجهول. في علم النفس الإبداعي، تُوصَف هذه الحالة بـ الفراغ الابتكاري (creative solitude)، وهي المرحلة التي ينشغل فيها العقل الباطن بإعادة تركيب العالم، فيبدو الخارج وكأنه لا علاقة له بما يجري.

وفقًا لدراسة نشرتها American Psychological Association، فإن العاملين على مشاريع شخصية طويلة الأمد يمرّون عادةً بدورة نفسية مكوّنة من أربع مراحل متعاقبة:

  1. الحماسة: البداية المشعّة، حين تومض الفكرة فجأة وتبدو واعدة، مشبعة بالمعنى، وكأنك وجدت ما كنت تبحث عنه. لكن الحماسة وحدها هشة، إن لم تتحوّل إلى عمل.

  2. الغرق: المرحلة التي تنشغل فيها تمامًا بالتفاصيل، وتغوص في التجريب، التخطيط، التعديل، والقلق. هنا يبدأ المشروع يأخذ شكله، لكنه يستهلكك تدريجيًا دون أن تنتبه.

  3. العزلة: تشعر أنك داخل نفق خاص بك، لا يراك أحد ولا يفهمك تمامًا. لا لأنك وحيد، بل لأن ما تبنيه لم يكتمل بعد، ولغته لم تُصغ بعد. العزلة هنا ليست خطأ، لكنها تحتاج توازنًا.

  4. الاندماج: العودة إلى العالم بمشروع قابل للعرض، والفكرة أصبحت واضحة، والعلاقة بينك وبينها أكثر نضجًا. تبدأ ترى نفسك من الخارج، وتتخفف من الثقل العاطفي.

لكن المشكلة لا تكمن في العزلة بحد ذاتها، بل في أثرها العاطفي. حين لا يفهمك أحد، تبدأ بالتشكيك في نفسك: هل ما أفعله تافه؟ هل أنا مهووس؟ هل أبالغ؟

ثم يدخل المشروع في مرحلة أشد خطورة: أن يتحوّل إلى سر، لا إلى حلم.

سر تخفيه لأنك تعبت من الشرح، من الدفاع، من المحاولة. ما لا يُقال كثيرًا هو أن فهم الناس لمشروعك ليس ضروريًا في بدايته. ما هو ضروري، هو أن تُبقي خيطًا رفيعًا بينك وبين العالم. أن لا تنقطع تمامًا. أن تعرف لمن تحكي — حتى لو لم يفهم — فقط لتتذكر أنك ما زلت إنسانًا يتواصل، لا مجرد آلة تنفيذ.

في سيرة Virginia Woolf، تذكر أنها في بدايات كتابتها لرواية To the Lighthouse، لم تكن تفهم حتى هي نفسها ما الذي تحاول قوله. كانت تُصوّر مشاهد وتقول لنفسها: هذا صحيح، لكنه غامض. وكانت تكتب رغم ذلك، وتبقي على محادثة أسبوعية مع أختها، لا لتشرح الرواية، بل لتبقى قادرة على الكلام.

في عام 2009، كان جان كوم ”مؤسس واتساب“ يعيش على هامش سيليكون ڤالي. لاجئ أوكراني سابق، نشأ في فقر مدقع، عمل في تنظيف المحلات ليساعد والدته المريضة. درس البرمجة وحصل على وظيفة متواضعة في Yahoo، لكنه لم يكن من ”النخبة اللامعة“.

بعد تركه الشركة، تقدّم لوظيفة في فيسبوك… وتم رفضه. فكر في مشروع جديد: تطبيق مراسلة بسيط، دون إعلانات، دون ضجيج، دون استغلال للبيانات. لكن فكرته لم تثر إعجاب أحد. لا مستثمر، ولا صحفي تقني، ولا حتى أصدقاؤه.

”تطبيق رسائل؟ عندنا مئات!“، ”ما الجدوى؟“، ”لماذا لا تفعل شيئًا أكثر ابتكارًا؟“
وقد كتب لاحقًا:
”كنت أعيش في عزلة حقيقية. لم يكن لدي تمويل، ولا فريق، ولا حتى دعم نفسي. المشروع كان صديقي الوحيد.“

كان ڤان جوخ يرسم يوميًا، يكتب رسائل طويلة لشقيقه، ويعيش في عزلة شعورية مكتملة. كتب:
”أرسم كما أتنفس، لا أحد يراني. ولا بأس. ليس هذا زمن الفهم، بل زمن العمل.“

لم يكن الجمهور موجودًا. ولا المردود. لكن المشروع كان حيًا، يتحرّك في العزلة، يُعاد تشكيله كل يوم.

لذلك، لا تحاول دائمًا أن يُفهم مشروعك كما هو الآن. اجعل له لُغة بسيطة يمكن مشاركتها، دون أن تُفقده عمقه. ولك أنت، احفظ مساحة تقول فيها لنفسك: ربما لا يفهمني أحد الآن، لكني أفهم نفسي بما يكفي لأكمل.

المشاريع العظيمة ليست تلك التي يُصفق لها الجميع من البداية، بل تلك التي يكتمل معناها تدريجيًا، لأنها كانت أعمق من أن تُشرح بجملة واحدة. وإذا شعرت بالعزلة، فاعلم أنها — أحيانًا — ليست علامة خطر، بل علامة تحوّل

شارك هذا الـمقال