⁠العاشرة مساءً
٨٩١ كلمة

”البيت هو زاوية في العالم نحتمي بها من الزمن.“ — غاستون باشلار

هذا المقال شخصي جدًا، عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة. أكتبه لأنني أحاول أن أفهم معنى البيت، الـ home. ما هو البيت؟ ما الذي يجعل البيت بيتًا؟ لو اختفت الأماكن والأشخاص، هل يظل بيتنا كما هو؟

هذا المقال ينقسم إلى 3 مراحل رئيسية، كلّها صادقة، لكن ما اختلف هو التجربة وأنا:

المرحلة الأولى كنت أشعر بالغضب والحنين والكثير من التوهان، مما جعلني أبدأ المقال ثم أتوقف عن الكتابة لعدة أيام.

المرحلة الثانية قررت أن أعود إلى مدينتي الأم لعدة أيام حتى أحلل شعوري وأفهم أسباب حنقي وأحدد خطواتي القادمة.

المرحلة الثالثة كتابة صادقة عمّا فهمت وشعرت به خلال الأيام الماضية.

المرحلة الأولى: الغضب والتوهان

”شيخ البلد.. خلف ولد.. بس الولد ساب البلد.. والحل ده كان معتبر.. اقرا الخبر، اقرا الخبر!“

إن كنت سكندري النشأة والهوى، وسِبتها وسافرت للعاصمة مهما اختلفت الأسباب، ومع وجود نوستالجيا كبيرة للرجوع، فأحب أقولك: ”أنا فاهماك وحاسة بيك.“

وجدت بالكاد في جدولي العاصمي، الخالي من تمشيات البحر اليومية وأكل الذرة المشوية، الوقت للذهاب لمشاهدة فيلم ميكروفون في وسط البلد، وعينك ما تشوف إلا النور! مشاهد يمكن حاليًا نعتبرها ”أرشيفية بجدارة“ للمدينة التي كانت ولم تعد: البحر، الشوارع، الجداريات، والأصوات التي كانت تصنع من العشوائية موسيقى تشبه المدينة تمامًا.

لم أكن أشاهد فيلمًا فقط، أعتقد أنني كنت أستعيد مدينة كاملة كانت لي يومًا ما. لكن الأعوام الأخيرة غيّرت ملامحها. أُغلقت الأماكن، والوجوه غابت، والفنانون الذين حملوا روحها غادروا نحو العاصمة بحثًا عن فرص أكبر. ومع كل خطوة في القاهرة، كنت أشعر أن جزءًا من تلك المدينة يبتعد عني أكثر.

الإسكندرية التي عرفتها كانت أكثر هدوءًا، وأكثر صدقًا، وأقرب إلى القلب. كان المشي على الكورنيش طقسًا يوميًا، وكان البحر مساحة مفتوحة للتفكير، لا خلفية للهواتف فقط. المدينة كانت شاهدًا صادقًا أمينًا لمرحلة كاملة من حياتي.

وعندما تغيّرت، أدركت أن بيتي تبدّل ببطء، كما أفقد عادة قديمة دون أن أنتبه، وأنه لم يختفِ فجأة. أعتقد أن المسافة بدأت بيني وبين المكان حين توقفت عن ممارساتي الصغيرة فيه: المقهى الذي لم أعد أزوره ”أصبح محلًا للفراخ المقلية“، والشارع الذي لم أعد أمر به، والرصيف الذي لم أعد أجلس عليه في المساء مع أصدقائي.

وهكذا، بدون أن أشعر، بسلاسة وببطء، تحوّل البيت من جغرافيا واضحة المعالم إلى ذكرى تسكنني أنا والهاتف. هل يمكن اعتبار مدينتي، التي أطلق عليها بكل فخر كلمة ”بيتي“، بيتي فعلًا رغم كل تلك التغييرات؟ إن اختفت الأماكن والأشخاص، فماذا تبقى من بيتي؟ وحين أشعر بالحنين، إلى ماذا أعود؟

هذا يذكرني بكل سخرية بـ معضلة سفينة ثيسيوس، السفينة الأسطورية التي يتم تجديدها باستبدال أجزائها القديمة بأخرى جديدة بمرور الوقت. تطرح المعضلة تساؤلات حول الهوية والتغيير: هل تظل السفينة نفسها إذا تغيّرت جميع مكوناتها المادية؟ مش عارفة!

المرحلة الثانية: القرار

قررت في تلك اللحظة ألا أستسلم للوقوع في فخ حلقات التفكير المفرغة. يتميز هذا الفخ عادةً بمعاداة الفعل والاستسلام لرمال الأفكار المتحركة؛ نبذل الكثير من الجهد للحركة، ولكن نظل في مكاننا منهكين حتى نستسلم.

أعرفه جيدًا، ولذلك قررت أن أكسر تلك الحلقة، وأن أذهب حين أجد إجاباتي: بيتي القديم. قررت زيارة ما تبقّى من أماكني المفضلة، وهاتفت بعض الأصدقاء المختارين بعناية شديدة لثقتي في إنسانيتهم. وبدأت الرحلة التي استمرت أربعة أيام في البحث عن إجابة:

ما هو البيت؟

كنت أدوّن تعليقات على شاكلة: ”ما فقدت المدينة بقدر ما فقدت النسخة التي كنتُها داخلها.“ و”كنت أظن أنني غادرت مدينة، ثم اكتشفت أنني غادرت جزءًا مني.“ وسرعان ما أقوم بشطب ما كتبت لأنه لا يبدو صادقًا، يبدو كجمل لامعة بالكتير أوي.

حتى وجدتني أتسلق إلى أعلى نقطة أعرفها وهي سطح قهوة علي الهندي (لا أنصحكم بالتسلق يا أعزائي، فالأمر يتطلب القليل من المهارة والخبرة المسبقة) ووجدت البحر يملأ الأفق.

بدأت سحابة الغضب المتراكم في التراجع، ودخلت في حالة من التأمل أعتقد أنها استمرت حتى المغيب، كما كنت أفعل أيام الجامعة. وشعرت في تلك اللحظة أنني مستعدة لتلقي القصص والإجابات والحكم والمواقف من أصدقائي والمدينة. لم أعد دفاعية كما كنت، ولكنني الآن أكثر استقبالًا بعقل متأنٍ وقلب محب.

المرحلة الثالثة: يوريكا!

هذه المدينة صاغت مَن أكون بلطف؛ لها قلب، ولها يدان حنونتان. صقلت أجزائي الطيبة بسخاءٍ ومحبةٍ ورعاية. كلّما ابتسمتُ لغريب، أو أطعمتُ قطًّا ضالًا، فذلك لأن حبًّا وتعاطفًا زُرعا في داخلي منذ زمنٍ بعيد، من بيتي، من مدينتي.

إن كانت مدينتي تمرّ بكل هذه التحوّلات القاسية التي تكاد لا تُحتمل، فكيف يمكنني أن أتخلّى عنها الآن؟ أدركتُ أن ما كنت أشعر به من قبل ذلك المزيج من الحزن والغضب كان في جوهره حبًّا خالصًا؛ كان حدادًا على جمالٍ أوّل كانت هذه المدينة أحد أهمّ مُنحِيه ومُعيلِيه.

كنت أظن أنني أبحث عن مدينة، ثم اكتشفت أنني أبحث عن شعورٍ بالأمان والصدق والانتماء، عن تلك اللحظة التي أشعر فيها أنني «في مكاني» مهما تغيّر العنوان. ربما يكون البيت هو قدرتنا على أن نصنع لأنفسنا موطئ سكينةٍ كلّما تبدّلت الحياة؛ أن نسمح لقلوبنا بالانتماء من جديد دون خيانةٍ للماضي مهما كنا فين.

الآن فقط أستطيع أن أقول إن السؤال ”أروح فين لو بيتي اختفى؟“ لم يعد يرعبني. لأن البيت لم يختفِ؛ بل تمدّد داخلي. صار أخفَّ وزنًا وأقلَّ جدرانًا. صرت أستطيع أن أعيش في مكانٍ جديد دون شعورٍ بالاقتلاع، لأني عرفت أن البيت الحقيقي ليس ما يُبنى بالحجارة، ولكن ما يُبنى بالحنين والمعنى والقدرة على البقاء في سلامٍ مع تغيّرنا الدائم.

البيت ببساطة هو ما لا يختفي حين يختفي كل شيء.

الآن أستطيع أن أقول: لا بأس أن تتبدّل السفينة. أنا الربّان نفسه، لكنّي أتعلّم في كلّ مرّة كيف أسمّي البحر. وإذا اختفى البيت كعنوان، فسأعيده كممارسةٍ أحبّها، وكعلاقةٍ أرعاها. وعندما يزورني الحنين، سأعود لا لأستردّ نسخةً فاتت، بل لأشكرها لأنها قادتني إلى ما أنا عليه الآن. فشكراً!

شارك هذا الـمقال