2011، وسط البلد، القاهرة
وقفت في وسط الشارع ورفعت صوتي كمجنون.
لا أذكر ما قلت بالضبط.
حين أغضب، تتوقف ذاكرتي عن تسجيل الكثير من التفاصيل.
نفس الدائرة تتكرر:
سبب تافه في أغلب الأحيان، غضب يخرج عن السيطرة، فقدان ذاكرة جزئي يؤدي إلى عجز عن رد عقلاني مناسب، وهو ما ينتهي إلى مزيد من الغضب بالضرورة.
أخبرني معالج نفسي أنك إذا تخيلت للغضب 10 درجات، ووصلت 9/10 أو 10/10، فهذا هو الـ Rage، أو بالعربية «الغضب المستعر» أو ببساطة «جنون الغضب».
أي جنون فقدان للعقل، لذلك فالاعتذار غالبًا ما يكون ضرورة حسب نصيحة المعالج، حتى لو كان السبب الأصلي للغضب مبررًا، وفي تلك الحالة تحديدًا، أعدك أن هذا الاضطرار للاعتذار يجلب معه في كثير من الأحيان غضبًا مكتومًا، لابد سيظهر في نوبة أخرى.
كانت تلك نهاية آخر قصة حب استمرت 6 سنوات. القصة الأكثر جدية قبل زواجي، وكانت النهاية فضيحة طبعًا.
شتائم، وزعيق، وكلام غير متماسك، لمجرد خلاف على مسألة غير شخصية على الإطلاق.
ربما كان سؤالًا عن طريقة تصرفي كأب لو طلب مني ابني كذا؟
حتى هذا الكذا لا أذكره الآن بالضبط، ولكني أذكر أن الموضوع لم يكن تساؤلًا افتراضيًا عن شكل تربيتي لأبنائنا المفترضين في المستقبل. كان تساؤلًا عن التصرف الأصح في قصة ما شغلت الناس وقتها، والكلام «جاب بعضه».
نوبات غضبي لسنين طويلة، كانت سببًا في خسارات وخسارات، وكادت في مرة من المرات أن تقضي على فرصة زواجي من زوجتي الحالية. وأغلبها بدأ من «مفيش» ولم ينتهِ أبدًا إلى «مفيش».
في المرة الأولى التي جلست فيها أمام معالج نفسي، في 2018، سألني عن مشكلتي، فأجبته أنها القلق. وبعد نقاش طويل، وصلنا للغضب، فسألني: متى تغضب؟
أجبته: يسهل أن أغضب حين لا أنام جيدًا، وفور الاستيقاظ، وقبل قهوة الصباح بالذات، وإذا أفرطت في القهوة، وإذا جعت، وإذا شعرت بالظلم، وفي منتصف اليوم بسبب حالة من الوخَم بعد الغداء، وفي نهايته، بسبب الإرهاق من العمل، وغيره وغيره.
وأنا أحكي بدأت أبتسم، ثم ضحكت.
لأول مرة ألاحظ أني أكاد أكون غاضبًا طيلة الوقت، ودون حتى أن ألاحظ ذلك.
انتهت مناقشتنا إلى أنني لست مريض قلق، أنا أعاني مشكلة في التحكم في الغضب.
وحين لاحظ المعالج أن القراءة أحد أهم اهتماماتي، رشح لي كتاب Anger management for dummies.
تجاربي مع نفس السلسة لم تكن مفيدة، لكن قررت أن أجرب، وليكن ما يكون.
من وقتها وأنا أقرأ باستمرار في مواضيع الصحة النفسية عمومًا، بالذات ما يتعلق منها بالمشاعر، والتعبير الصحي عنها، وما يسبب اضطرابها، وصولًا إلى ضرورة المشاعر، حتى السلبية منها، لفهم الذات والعالم.
فهمت أن الغضب في حد ذاته، ليس بالضرورة خطيئة، بل هو بمصطلحات علم النفس التطوري: له أهمية تطورية. الغضب تعبير عن ظنك أن حدودك قد انتُهكت. أنك ظُلمت مثلًا. وفي تلك الحالات، لك كل الحق أن تغضب. بل إن التعبير عن هذا الغضب شيء صحي، وتراكمه على مدار فترة من الزمن، لن يؤدي إلا لانفجارات غضب، قد تخسر فيها الكثير أو تضطر للاعتذار.
المشكلة في الشكل الذي تختاره للتعبير عن الغضب: هل تعاتب؟ هل تصرخ؟ هل تترك المكان؟ هل تخرج للتمشية؟ وفي تناسُب درجة الغضب مع مسبباته. فإذا وصلت «جنون الغضب»، ستكون مخطئًا حتى لو كنت على حق. ستكون مهددًا بضياع حقك، بأن تبدو مجنونًا أمام من تحب وتقدّر، وبالتأكيد ستضطر للاعتذار.
استخدم المعالج لفظ «حيل» للتعبير عن تقنيات معينة يمكن استخدامها حين تلاحظ قرب الوصول لـ 9/10، منها تغيير الموضوع، أو طلب هدنة من النقاش، أو حتى تغيير «الموود» بنُكتة، وأكّد أن تلك «الحيل» لا تناسب كل الأشخاص وكل المواقف، طيلة الوقت.
بالتجربة والتدريب، ستجد ما يناسبك وستجيده إلى حد ما. لن تتوقف عن الغضب. لكنك ستضع حدًا لخسائرك، وستستطيع التعبير عنه في كثير من الأحيان بما يحفظ حدودك، ويقربك لشكل الحياة التي تريدها لنفسك.
لكن هذا التعبير ينبغي أن يكون «صحيًا» ومتناسبًا مع مسببات الغضب، ربما بالكتابة، أو بعتاب لطيف، باستخدام ضمائر المتكلم (أنا حاسس بكذا) لا ضمائر المخاطَب (أنت عملت كذا). الصيغة الأولى فيها اتهام وإثارة تحفز من تكلمه، وبالتالي تهديد باستمرار المناقشة الغاضبة من الطرفين.
أما التعبير عن مشاعرك بضمير المتكلم، فهو تعبير عن إحساس، قد يكون صحيحًا أو لا، فهو ضمنيًا يفترض أنك تتكلم بشكل ذاتي، ولا تفترض الموضوعية على الإطلاق.
ستساعدك الكتابة مثلًا في جرد أسباب غضبك المتكررة، أو فهم أنماطه.
هل تكون أكثر غضبًا حين لا تحصل على كفايتك من النوم؟
أو تكون أكثر غضبًا في مواقف بعينها؟
في أوقات بعينها؟
مع أشخاص بعينهم؟
هنا أمامك أن تختار تحاشي تلك المواقف، ولو مؤقتًا، وأمامك أن تحذر المقربين منك. ولك أن تتأمل في كل ذلك لتفهم لماذا تكون أكثر غضبًا حينها.
مثلًا: لماذا يثير أشخاص بعينهم غضبك لمجرد وجودك معهم في مكان واحد؟
لماذا تكون أكثر غضبًا في مناسبات معينة؟
هل لاحظت كل الأفلام التي تقوم ثيمتها العائلي على تجمع أفراد العائلة في الأعياد؟ تلك الأفلام تنجح لسبب.
الميزة في الغضب أنه عاطفة، وكل عاطفة ستزول ما لم تتعلق بها، بالبقاء في نفس الظروف التي أغضبتك، بكتمان الغضب، أو باستحضار ذكريات تغذي نفس الغضب. كل العواطف موجات، تصعد وتهبط، وتزول، لتفتح الباب لغيرها. في كتابه عن الغضب، يلاحظ جنتري دويل أن محاولة التفكير متعمدًا فيما يحزنك قد يصرف عنك الغضب.
ومجرد تمرير الوقت بالتمشية، بالموسيقى، بغسيل الأطباق، ستيح الوقت أحيانًا لهبوط الموجة، وصعود غيرها، بشرط التعبير في وقت ما عن غضبك في النهاية.
أي كتاب تنمية ذاتية، قد يكون كنزًا للبعض، وبلا أهمية إطلاقًا للبعض الآخر. فما يراه البعض بديهيًا، قد يكون جديدًا تمامًا لغيرهم.
من البديهيات التي أدركتها متأخرًا، أني أستطيع أن أقول «أنا غضبان من كذا» دون أن أصيح بذلك. أنك ينبغي أن «تحاسب على مشاريبك» طال الوقت أم قصر. أن تعتذر أو تصلح ما أفسدت أو تعوّض من آذيت بغضبك. أنك لست مضطرًا إلى التصرف فورًا.
ولك أن تختار الصمت، أو الرد كتابةً، أو الانتظار. والثلاثة فرص للتفكير، لاختيار الألفاظ، وضبط مظاهر الغضب. والكتابة بالذات تسمح لك بتعديل ألفاظك قبل الإرسال أو مسح رسالتك كلها أحيانًا.
إدارة الغضب لا تعني أبدًا أنك ستكف عن الغضب. فقط ستتعلم أن تُطيل ما يسميه البوذيون «السكتة المقدسة». تلك المسافة الزمنية بين الحدث ورد فعلك إزاءه. تلك المسافة التي تسمح بالتفكير، بأن يكون تصرفك فعلًا، لا رد فعل. وتلك مهارة يمكن تعلمها.
البديهية الأهم في كل هذا هي أن المكتوب تجربة شخصية، انتقِ منها ما يناسبك وينفعك. فلا وصفة واحدة للتعامل مع الغضب.
بعد 37 عامًا من الغضب، لا يزال ذلك اليوم في 2011 واحدًا من أسوأ أيامي على الإطلاق، وأكثرها إحراجًا.
لا يزال ذلك المراهق الذي صرخ في 2011 في وسط الشارع جزءًا مني، لكنّي اليوم أعرف كيف أهادنه، وأمنحه مساحة ليتكلم دون أن يدمّر. الغضب لم يختفِ. صرت أراه علامة على أن هناك ما يجري في حياتي على غير رغبتي، إشارة للتفكير، فتعديل المسار.
لم يتحول الغضب إلى صديق بعد، لكنه لم يعد عدوًا كذلك.