⁠العاشرة مساءً
٨١٢ كلمة

ليلة شتوية في بيتي السكندري، الهواء مالح قليلًا والشارع هادئ. كنت أراجع الواتساب دون تركيز يُذكر، وصلتني رسالة طويلة من صديقتي مفادها: ”محتاجاكي فورًا.“ للمرة الأولى بعد المئة. أعرف هذا النداء جيدًا، لأنه بطبيعتي يُوقظ في داخلي نداء أستجيب له دون تفكير.

قفزت من مكاني ووضعت الخطة، رتبت أفكاري وبدأت أحمل نفسي مسؤولية إنقاذ المشهد كله. في الطريق إليها شعرت بوخزة في صدري: لماذا أتحرك كأنني الوحيدة التي تستطيع حمل هذا العبء؟ ولماذا كل مرة أعود مستنزفة الطاقة بينما لا يتغير أي شيء كما توقعت، فصديقتي تفعل نفس الأخطاء وتختار نفس الشخص الذي لا يبادرها الحب أو الاحترام مثل كل مرة؟

كان هذا الاندفاع دائمًا يمنحني شعورًا بأنني ضرورية أو مهمة بشكل ما. لاحقًا فهمت أن وراءه سببًا أعمق: رغبة في أن يُرى وجودي على أنه مفيد، وأن تُكلل فوضاي الداخلية بإنجاز خارجي. قرأت في طريقي إليها عن الـ Savior Complex: اندفاع مستمر لمساعدة الآخرين بطريقة تفوق حدودك وتلتهم وقتك ومشاعرك، مع شعور بعدم الراحة إلى أن تُصلح الأمور. ليست تشخيصًا طبيًا رسميًا لكنها نمط متكرر قد يؤذي صاحبه ومن حوله مع الوقت.

أصل عقدة المنقذ

بعضنا تعلم مبكرًا أن قيمته تُقاس بما يقدمه — للأسف. ربما كنت الطفل الذي يُكبَّرونه قبل أوانه فيتحمل ما لا يُحتمل، أو ربما تشكل لديك اعتقاد داخلي يقول: ”أنا مقبول حين أُسعف / أنقذ الجميع.“ هذه الحكاية تغدو إطارًا يلون كل علاقة لاحقة تمر بها. في وقت المشكلة تفضل إنقاذ الموقف على مواجهة قلقك الشخصي.

تشير المصادر النفسية إلى أن الدوافع قد ترتبط بالبحث عن تقدير الذات خارج الذات، أو بتاريخ من تحمل الأدوار مبكرًا داخل الأسرة، ومع الوقت تتوطن عادة تقول: ”أحتاج أن أُحتاج.“ هذا النمط يتغذى بصمت ويكاد يختفي وراء مفردات لطيفة مثل الطيبة والنية الحسنة و”الجدعنة“، لكنه يترك آثارًا كالإرهاق المزمن وتوتر العلاقات وعدم التقدير.

علماء العلاج التفاعلي يصفون أيضًا مثلثًا دراميًا: ضحية، مُضطهِد، ومنقذ. حين نتمسك بدور المنقذ طوال الوقت قد ننزلق بين الأدوار بلا انتباه: نبدأ منقذين ثم نتعب فنصير مُضطهِدين بانتقاداتنا، أو نتحول إلى ضحايا لأن أحدًا لا يقدر تضحياتنا بالوقت والمجهود الذهني والنفسي والجسدي.

في تجربتي أدركت أنني أحيانًا لا أنقذ شخصًا بقدر ما أحاول إنقاذ صورتي عن نفسي. المسألة خادعة — ”صدقوني أقولها بمرارة يتبعها شعور بالارتياح“ — لأنك تظهر بمظهر النُبل بينما الحقيقة أنك تهرب من مواجهة أسئلتك الأعمق: ماذا لو لم أكن المنقذ في رواية أحدهم؟ من أكون إذًا وقتها وبعدها؟

علامات تقول لك إنك منقذ جدًا

العلامة الأولى تظهر في الجسد: توتر مستمر قد يصل لنوم متقطع وإرهاق لا يهدأ بعد مهام الإنقاذ الدورية. هناك أيضًا الذنب التلقائي لو قلت ”لا“أو ”لا أستطيع الآن“، وكأن الرفض جريمة لا حق مكفول لكل شخص.

تكتشف نفسك منجذبًا دائمًا نحو الأشخاص الأكثر اضطرابًا، وكأن الرادار الداخلي لا يلتقط إلا الاستغاثات، ومع الوقت تترسخ دائرة سامة: تُعطي أكثر مما تحتمل فتغضب لأن العطاء لم يُثمَّن، ثم تعود لتُعطي كي تتخلّص من غضبك، وهكذا إلى ما لا نهاية.

كثير من المراجع الإكلينيكية تتحدث عن هذه الحلقة المفرغة: انجذاب لعلاقات مُنهِكة، واحتراق عاطفي، واهتزاز الحدود الشخصية. النصيحة هناك هي إعادة التوازن بين التعاطف واعتناء المرء بنفسه، وإدراك أن الرغبة في الإصلاح قد تخفي بحثًا عن قيمة لا يجدها الشخص في مكان آخر.

علامة أخرى خفية هي حين تُبادر بالمساعدة قبل أن يُطلب منك، ثم تكتب سيناريو كامل وتمنح نفسك البطولة. لكن البلوت تويست يحدث حين تكتشف لاحقًا أن الطرف الآخر لم يرد إنقاذًا أصلًا، وإنما شخصًا آمنًا يسمعه. هنا ينكسر شيء في حلقتك الداخلية: ”قدّمتُ كل هذا، لماذا لم يتغير فلان؟“ لأن ما قُدِّم لم يكن ما طُلب، ولأن الإصلاح من خارج رغبة صاحبه يخلق اعتمادًا مشوهًا لا يثبت.

بعض المقالات التنموية والصحية تكرر تلك الفكرة بوضوح: المساعدة بلا حدود تعلّم الآخرين تخطي حدودك. تعلم فن الطلب والاستئذان، وفن الإصغاء قبل التدخل جزء أساسي من شفاء هذا النمط. وعليك أيضًا أن تدرك أن لا أحد يتغير تغييرًا جذريًا حقيقيًا دون رغبة صادقة قوية من داخله هو، وليس من يحيطون به — ولا حتى الحب.

حان وقت وضع الحدود النفسية…

الحدود الصحية قد نعتبرها إشارات طريق، على عكس ما هو شائع أنها جدار عالٍ. إنها تساؤل بسيط: أين تنتهي مسؤوليتي وتبدأ مسؤولية الآخر؟

أول خطوة جربتها في حياتي كانت سؤالًا بسيطًا: هل طُلب مني ما سأفعله؟ إن كانت الإجابة لا، أؤجل تلقائيًا. ثانيًا: هل لدي مساحة وسعة نفسية؟ إن لم تتوفر، أبحث عن بدائل: تحديد وقت لاحق مناسب لي ولهم، أو دعم رمزي من دون حمل القضية كاملة كأنها نهاية العالم.

هذه ليست قسوة، بل حماية لما تبقى من طاقتك وإنصاف لمساحة الطرف الآخر كي ينمو. تذكر أن التوازن لا يأتي في أسبوع؛ قد تنتكس وقد تُبالغ في الاتجاه الآخر. هذا طبيعي، لأن الهدف ليس أن تصير شخصًا لا يُنقذ، وإنما إنسانًا يرى نفسه والآخر بوضوح، لكلٍ مساحته وكرامته ومسؤوليته.

في تلك الليلة السكندرية الباردة وصلتُ إلى صديقتي متأخرة قليلًا بسبب ازدحام الكورنيش بالسيارات ورأسي بالأفكار. هذه المرة لم أفتح حقيبة الإنقاذ وقلت: ”احكيلي حصل إيه؟“

تحدثت طويلًا ولم أعرض حلولًا، ولم أعدها بكل الخطط المحكمة المعدّة خصيصًا لها. وبعد ساعة قالت لي: ”شكرًا إنك سمعتيني.“

الصمت قد يكون أكثر رحمة وفائدة من خطة محكمة.
عدتُ إلى البيت خفيفة، ونمت نومًا عميقًا.

الإرشادية تقترح بدائل عملية: حدد نطاق المساعدة (ساعة واحدة، مكالمة واحدة، متابعة بعد يوم أو اثنين). اعرف أيضًا إشارات الخطر: إن لم يحترم الآخر حدود طاقتك، أو إن شعرت بأنك تموّل العجز بدل تمكين الاستقلال، توقف وتعلم قول ”لا“ بعبارات رقيقة ولكن واضحة: ”أقدر ثقتك لكن لا أستطيع حمل هذا الآن. هل ممكن أن نتحادث غدًا؟“

شارك هذا الـمقال