“Are you stressed?”
سألني ابني ونحن في الطريق إلى تمرينه الأسبوعي.
قلت له إنني بخير.
But, you look really stressed.
لم أرد هذه المرة، كنت أعرف أنه محق.
أرتبط والـstress بعلاقة أبدية.
لم أعرف متى بدأت، ولا أعرف إذا ما كانت ستنتهي يومًا.
في الابتدائية، كنت الطالب المتفوق.
الأول على المدرسة.
ربما يكون السبب هو مجموعات التقوية والدروس المجانية التي كان يتبرع بها أغلب المدرسين كرامة لجارنا الأستاذ حاتم، تلميذ والدي، لكن هذه قصة أخرى..
كنت دائمًا في برواز الطالب المتفوق، حافظ القرآن، المحبوب من كل المدرسين.
أنقذني هذا من مواقف سخيفة كثيرة، مثل حين افترى علي أحد المدرسين أنني رفعت صوتي عليه وشتمته، لم يصدقه أحد، حتى مدير المدرسة.
لا يمكن أن يحدث ذلك.
مستحيل.
في المقابل، وضعني هذا في معركة من نوع مختلف.
إثبات أنني أنا هذا الشخص فعلًا!
أيها الـstress يا ألف أهلًا وسهلًا.
حين اتسع عالمي قليلًا، ووصلت إلى الإعدادية ثم الثانوية، كان صعبًا عليّ أن أتقبل أنني لست من أوائل الطلبة، أنا مجرد طالب عادي في مدرسة بها مئات من الطلاب غيري.
ضاعت ميزتان بلا حول مني ولا قوة.
بل وتحولت ميزة بعينها — أنني حافظ القرآن الذي يقرأ في الإذاعة المدرسية — إلى نقمة يومية، حين قرر المشرف على الإذاعة في الثانوية أن يجعلني أقرأ ما يزيد عن ربع كامل في انتظار وصول السيد مدير المدرسة كي يسبغ علينا نحن الطلبة من فائض حكمته.
حدث ذلك أكثر من مرة. تحولت الميزة إلى وسيلة تعذيب.
أيها الـstress.. والله منوّر!
أقول لابني إن طريقة مواجهة المشاعر لا ينبغي أن تكون الأكل. وأن الحزن والمشكلات في المدرسة لها حلولها فعلًا.
يخبرني أنه فعلًا جائع، أصر على السؤال: ”جائع أم stressed؟“
في مثل سنه، كنت أعود إلى البيت، أمي لا تزال في عملها. أعدّت الغداء في الليل طبعًا وتركته جاهزًا. ”هيحتاج يتسخن بس“، كما تقول قبل أن تذهب في الصباح.
أرفع الغطاء، أجد أمي قد أعدّت وجبتها المفضلة: رز بالبندق.
لمن لا يعرف — وهو قليل الحظ في الدنيا — فالرز بالبندق يا سيدي هو عبارة عن رز مسلوق مع الفول الحراتي، يؤكل عادة مع خضار آخر.
كانت طريقة أمي المثلى في مواجهة العالم، ونهاية الشهر أيضًا، ومع ذلك لم أحبه أبدًا.
لماذا اسمه أرز بالبندق؟ سؤال جميل. لا أعرف.
”كُل أي حاجة، ده اللي موجود“، تخبرني أمي بعد أن هاتفتها على تليفون العمل لأشتكي.
بهذه البساطة، سأفتح التلاجة وآكل أي حاجة.
أرتبط والأكل بعلاقة أبدية أيضًا.
معظم ذكرياتي الحزينة والسعيدة ارتبطت بشكل ما بالأكل في النهاية. في روايات عائلتنا يخبرنا عمي أن أبي كان ”صاحب مزاج“ في الأكل. لدرجة أنه في مرضه الأخير، وحين كان محجوزًا تحت الملاحظة في المستشفى، أصر أن يأكل شوربة كوارع!
”هاكلها حتى لو كانت آخر حاجة تخش جسمي“. طموح غريب لشخص على وشك الموت. وافق الأطباء على مضض.
لا زلت أرى صورة خالتي رحمها الله وهي تقوم بتهريب سمكة صيادية إلى غرفة أمي المريضة لذات السبب.
سأتعلم الطبخ حتى أستطيع تجهيز وجبات مناسبة قد تحبها هي بغير ضرر، وسأنجو من الاعتقال بعدها بعامين لأنني كنت آكل الكشري مع أصدقائي من الجامعة حين بحثت عني الشرطة في أروقة الكلية.
سأتخلى عن شخصي المهذب وأبدأ السباب وأنا أتناول العصير في أحد ساحات التجنيد، وسأواجه الرفض لأول مرة بسندوتش ما من على عربية كبدة في الحي العاشر.
سأعرض الزواج بعدها في مطعم بشارع سوريا. سنقرر الانفصال بعدها بسنوات في مطعم آخر بإسطنبول.
أجمع أصدقائي على وجبات أطبخها بنفسي.
سأعرف كل مطعم جيد وسيّئ في المدينة التي هاجرت إليها.
لست أدري متى بدأ فعلًا ارتباط فعل الأكل بالـstress!
كل هذا.. وأنا ماعرفش..
أذكر بشكل ما خجلي أن أشكو لأمي، هي التي تحمل البيت حملًا، تقوم بدور الأب والأم معًا لي وإخوتي.
تعود من عملها بدفاتر ضخمة تكملها وهي تشرب الشاي، أو تأكل بعضًا من الرز ببندق. كانت متعتنا صغارًا أن نساعدها؛ فنقوم بكتابة بعض الأسماء في الدفاتر أو نساعدها بكتابة بعض الحسابات بالقلم الرصاص قبل أن تراجعها هي.
كانت تأتي لحل مشاكل المدرسة بنفسها رغم انشغالها الدائم. لم تأخذ إجازة واحدة في حياتها، حتى أن رصيد إجازاتها المستحقة عند وفاتها كان عدة سنوات!
تخيّل أن آتي بعد كل هذا لأشكو لها من كذا أو كذا!
”ما تسترجل!“ أقول لنفسي!
كانت ”الطفاسة“ حلًا آمنًا.
جربتها بعد ذلك في مواجهة الوحدة، الغربة، الاكتئاب، البرد، الإفلاس، الديون، ونجحت في أداء المطلوب.
يسألني ابني: ”انت ليه مش بتاكل؟“
أخبره أن الطعام الموجود في هذا المكان لا يناسبني.
أعد الطبيب لائحة ضخمة من الممنوعات بعد أن قام بتشخيصي أخيرًا بالقولون العصبي بعد سنوات من التعب غير المفهوم.
حتى الرز ببندق، الذي أكرهه أصلًا، صار ممنوعًا.
”عشان كده مينفعش نفش غلنا في الأكل، لو متضايق من حاجة عرفني، إنما ما تكتمش في نفسك وتاكل، عشان جسمك مش هينسالك ده“.
يقول:
”But, every time I make something bad, I feel that I disappointed you, and I want to make you happy.“
أحا..
ها نحن نعيد الكرة من جديد.
أدركت متأخرًا — مجبرًا — أنني لم أكن بحاجة لإثبات أي شيء لكائن من كان.
وأنني كنت منذ البداية هذا الشخص فعلًا.
وأنني أكثر تعقيدًا من أن يحتويني إطار ضيق لصورة رسمتها لي وأنا طفل.
سأخبر ابني أن أبي وأمي واجها العالم بالرز ببندق والكوارع لأنهما لم يعلما أي سبيل آخر.
وأن معالجة المشكلة لا يكون بمعالجة الإحساس الناتج عنها.
وأن كل هذه المسكنات اللحظية، سندفع ثمنها مستقبلًا.
سأخبر ابني أن ”العادية ليست عيبًا“، والـaverage ليس انتقاصًا.
وأنه مميز بنفسه، لا بمقاييس العالم.
سأخبر ابني أن ما يهم هو أن يشعر هو بالسعادة والإنجاز، لا أن يشعرني أنا أو أي حد بالسعادة والإنجاز.
سأخبر ابني، أنني stressed فعلًا.
وأن باليد — بشكل ما — حيلة.
وأنني أحبه.
جدًا.
وأن هذا هو ما يهم.