على مدار الأشهر الماضية كانت هناك سحابة من اليأس تغطي على حياتي كله، تحولت جحيمًا يصعب معه فعل الاستيقاظ اليومي، ساعات من اللاشيء يتخللها فقرة مشي بسيطة بعد منتصف الليل والجلوس مع الكلاب الضالة الذين أصبحوا رفاقي بمرور الوقت بامتداد الساعات وتعدد الجلسات.
توالت علب السجائر واحدة تلو الأخرى رغم كوني غير مدخن بالأساس، ولكن كل شيء أصبح بلا قيمة ولتحترق رئتي كما تحترق حياتي كلها، قررت التوقف عن الكتابة وانتهت علاقة قبل أن تبدأ بسبب محاولاتي المستمرة لعدم الاقتراب لأن لا أمل في نجاحها. بغياب الأمل فقد كل فرص النجاة، فقدت القدرة على المحاولة نفسها.
أصبحت دعوات التخلي عن الأمل هي الصيحة الرائجة الآن، لن أتفاجأ إذا وجدت عبارة نيتشه: ”الحقيقة أن الأمل هو أسوأ الشرور جميعًا لأنه يطيل عذابات الإنسان“ مكتوبة على أحد الحوائط في طريقي للعودة للمنزل في أحد ضواحي السادس من أكتوبر، المدينة عديمة الروح المفتقدة لأي جوهر والباعثة على روح الكآبة المهلكة.
ولكن ما يجعلني أستطيع تحملها؛ أنني أعيش على أمل مغادرتها خلال عدة أشهر مع تحسن وضعي المادي وظروف العمل، أحيا على أمل رؤية النيل مع كل ضائقة تمر بها النفس. وهنا -كالقول الشائع- مربط الفرس.
تنبعث دفقة من الحرية في دماء الإنسان أثناء تخليه عن كل شيء وخاصةً الأمل، يشعر أنه ملك الأرض وما عليها، الآن هو حر كيوم ولدته أمه لا يخشى الخسارة ولا ينتظر شيء سيحطمه عدم تحقيقه، لقد كسرت اللعنة وفهمت اللعبة ولأنعم بحياة هانئة، ولكن يبقى السؤال الأهم، هل يمكن تحقيق ذلك حقًا؟
على نفس النهج: نجد لدى الفيلسوف الروماني إميل سيوران في كتابه ”All Gall is Divided“ مقولته: ”أعيش فقط لأن في استطاعتي الموت عندما أختار ذلك، بدون فكرة الانتحار كنت سأقتل نفسي على الفور“ والتي يتم إعادة استنساخها بصور مختلفة محافظة على روحها الزاعقة بالاستسلام كأنه مفتاح النجاة. يتناسى البعض وراء لهفة ترديد العبارات الرنانة الجذابة لكل مجاذيب اليأس، أنك تضرب البنية الأساسية لعيش الإنسان في مقتل، وأنك تضرب بعرض الحائط كل منطق يقوم عليه الفعل؛ بنزع كل أمل بنجاحه في نهايته.
محاولة للفهم
الأكيد أن الجميع يتفق على صعوبة الحياة، أن أجلس على كرسي المبشر بالأمل صارخًا في وجهك بأن الحياة رائعة ومن المؤكد أن الوضع سيتبدل وستصل إلى ما تطمح عما قريب، لا يا صديقي، أنا أعي ما تمر به فلقد مررت به ومازلت ولكن فقط لنحلل الأشياء بتعقل لعلنا نصل إلى نتيجة جديدة.
بكل بساطة الإنسان يحيا على الأمل، سواء ردد ذلك بلسانه أو كان مجرد أمل خفي قابع في قاع النفس. إذا أيقن الإنسان بعدم تحسن الوضع وأنه لن يصل إلى كل ما يحلم فلما يستمر إذًا؟!
ينطبق الشيء نفسه على علاقات الحب والصداقة، لما يستثمر الإنسان من وقته ومجهوده للدخول في علاقة يعي تمام المعية بزوالها في النهاية، الجميع يعرف أن جميع العلاقات تصاب بفترات من الفتور وأن أطرافها يمرون بالعديد من الأزمات ويسقط بعضهم في دوامات الاكتئاب لفترات طويلة، فكيف على إنسان عاقل أن يستطيع أن يخوض كل ذلك وهو موقن أن من يجلس معه اليوم سيتركه غدًا.
ردد سيوران مقولته تلك عدة مرات لكنه تغافل عن نقطة مهمة وهي أنه أثناء تقديم الحرية بالموت كمخرج باليد اليمنى، فهو قدم الاستسلام بالتخلي عن الحياة كمهرب باليد اليسرى، فبدلًا من أن يكون المحاولة ثم المحاولة لأننا لا نملك حياة بديلة، أصبح الموت خيار متاح ومقبول.
حرية سرعان ما يزول أثرها
إن الشعور الذي يجتاح الإنسان عندما يتخلى عن الأمل يشبه المخدرات، شعور رائع في البداية لكنه يفقد وهجه بمرور الوقت حتى يصل بالإنسان إلى الهاوية، بإمكانك أن ترى ذلك جليًا في حيوات الآخرين أو حتى في حياتك.
يكثر الحديث على أن جميع العلاقات من حب وصداقة مصيرها الزوال كعامل محفز لخوض غمار الصداقة والحب، تحرر ولا تكترث للنتيجة فهي حتمية الفشل على كل حال ولا أمل في استمرارها. ولكن كم مرة تثاقلت خطواتك في محاولة اكتساب صديق أو محاولة الوصول إلى قلب إحداهن لأنك أيقنت بأن لا أمل لتلك العلاقة في النهاية، وكم مرة أثر غياب الأمل على قدرتك على مواجهة صعاب الحياة وجعلك مكبل بسلاسل الاستلام وعدم الرغبة في التغيير.
فيه أمل
في بداية العام وأثناء مقابلتي لصديقي المقرب لأول مرة وقبل أن تنهار حياتي بالكامل بعدها بعدة أشهر، لم تكن حياتي حينها جيدة بالأساس، لكن حتى القليل الذي كنت أمتلكه فقدته. كنا نجلس وأثناء انغماسي في الحديث عن أحلامي وطموحاتي أخبرته أن لدي أمل لتحقيقهم.
كانت كلحظة تنوير، ومضة عبثية من الحياة ظل صديقي يردد الجملة ويؤكد عليها كلما تقابلنا حتى بعد أن أغلقت كل الأبواب في وجهي ليبعث بداخلي أمل بسيط ساعدني على المواصلة، بعدها تبدل الحال بطريقة عجيبة حتى أني عدت للكتابة بعد أن أقسمت ألا أعود لتلك اللعنة التي خربت حياتي فقط.
في تلك اللحظة يتبادر لذهني أحد أكثر المؤثرين على حياتي كلها، كامو وكتابه أسطورة سيزيف الذي يدعونا في ختامه لأن يجب علينا أن نتصور أن سيزيف كان سعيدًا، ولكن ماذا لو كان كان سيزيف يأمل، أن تعفو عنه الآلهة أو أن يستطيع أن يتغلب على صخرتهم يومًا ويصل بها إلى قمة الجبل، لربما هذا ما ألهمه لاستكمال رحلته وساعده على المواصلة، ورغم صعوبة التمسك بالأمل مع اليأس المتكرر إلا أن ذلك لم يمنعه من استشعار كل جمال أمامه رغم ثقل الصخرة الذي أتعبه لا محالة.