⁠العاشرة مساءً
١٦٤٧ كلمة

اليوم الثلاثاء. ليست بداية أسبوع تعمل فيه بكامل طاقتك، ولا يوم الخميس الذي يهونه عليك اقتراب نهاية الأسبوع، لكنه يوم تدرك فيه أسبوعيًا أن طاقتك محدودة، وأن ضغوط العمل تستنفدها بأسرع مما تتخيل.

تعود لمنزلك منهكًا بعد يوم طويل، ربما خضت فيه شجارًا مع مديرك، وكلك غضب مكتوم لم تستطع إطلاق العنان له، بعد رحلة عودة قضيتها وسط طريق مزدحم يقضي على ما تبقى من سعتك النفسية. وبمجرد وصولك المنزل تتجه يدك تلقائيًا إلى تطبيق الهاتف الذي ينقذك في هذه المواقف. قبل أن تغير ملابسك حتى تطلب الطعام الذي اعتدت طلبه في أوقات كهذه: بيتزا صغيرة وبطاطس وصودا، وفطيرة حلوة بالسكر كتحلية في نهاية الوجبة.

لكنك، والحق يقال، تفكر سريعًا في كل مرة أن تجرب شيئًا جديدًا، إلا أن الإرهاق يمنعك من ترف الاختيار بين فيضان الاختيارات المعروضة أمامك. تقول لنفسك إنها آخر مرة، وأن المرة القادمة ستكون للطعام الصحي. أما الآن فلا وقت. هذه الوجبة هي الخيار الآمن، والطعام المريح. كم مرة كان الحل الفوري ليوم سيء يتلخص في: ”سأطلب وجبتي المفضلة“؟

المشكلة أن الطعام لا يحل المشاكل. الطعام وظيفته أن يُؤكل، وأن يسد الجوع، وأن نستمتع به طبعًا لوقت محدد. لم يحل الطعام أبدًا مشكلة أحد. لماذا نختاره إذن؟
الفكرة هنا أن الطعام قد خرج عن وظيفته الأصلية، بوصفه مصدرًا للطاقة ووسيلة لسد الجوع، وأصبحت بعض أنواعه تمنحنا راحة مؤقتة ومتعة لحظية، فنتناولها لتصورنا أنها ستساعدنا في التخلص من الضغوط والمشاعر السلبية. هذا ما يطلق عليه المتخصصون: الأكل العاطفي (Emotional Eating).

هل يخفف الطعام من الأحزان؟

للمفارقة.. الإجابة مزيج بين لا ونعم.

نعم لأنه لا يمكننا إنكار تأثير الطعام ونوعه على حالتنا المزاجية. الشيكولاتة الداكنة مثلًا لها تأثير إيجابي على السيروتونين، ما يشعرنا بالاسترخاء ويخفف المشاعر السلبية.

لكن الحقيقة أن معظم الأطعمة التي يلجأ إليها الناس في الأوقات القاسية تقوم على مكونين أساسيين: الدهون، التي تشعرنا بالامتلاء، وبالتالي إحساس مؤقت بالراحة. والنشويات البسيطة، التي ترفع سكر الدم لحظة تناولها، فيشعر الإنسان أنه في حال أفضل. كيف لأحد أن يُحبط ودماغه يسبح وسط كل هذا السكر؟

لكن كل هذا مؤقت، فسرعان ما يظهر شعور الضيق أو الذنب، خاصة إذا كان الشخص يحاول بالفعل إنقاص وزنه. كما أن السكر الذي ارتفع سريعًا يعاود الانخفاض بنفس السرعة، فلا يمر وقت طويل حتى يشعر المرء بالجوع ثانية. وبالنظر لآثار الأكل العاطفي على المدى الطويل، مثل الإصابة باضطرابات الطعام، والسمنة وما يترتب عليها من أمراض كمرض السكر وارتفاع الضغط، تصبح لا إذن هي الإجابة الأدق.

قد يمنحنا الطعام انفراجة لحظية، لكن المؤكد أنه لا يمنح السعادة.

هل كان آباؤنا يأكلون عاطفيًا؟

يمكننا القول، بدرجة من التعميم، إن طريقة التعامل مع الطعام كانت أبسط بكثير في الماضي. يعود الإنسان من عمله، ليأكل ما يوضع في طبقه، أو ما يصنعه لنفسه. كل ذلك حسب المكونات المتاحة في بيئته وبيته.

لكن الأمور تغيرت مع الوقت، خاصة مع قيام الثورة الصناعية وما تلاها. تغيرت صناعة الطعام بالكامل. فبعدما خرجت النساء للعمل في المصانع، واحتاج العمل إلى كل دقيقة، سواء للرجل أو المرأة، ظهرت صناعة الوجبات السريعة، ومعها طرق مبتكرة لمعالجة الأغذية والعصائر بالنكهات الصناعية. وبالتدريج وصلنا إلى تصنيع أطعمة كاملة في المعمل. فأنت حين تأكل بطاطس بطعم الكباب مثلًا، لا تتناول في الحقيقة إلا نكهة مُصنّعة، والبطاطس هذه لم تتعرض حتى لدخان شواء الكباب. أشياء ليست أطعمة في الأصل، بل خليط من النكهات القوية، والألوان الصناعية، والمحليات، وكميات رهيبة من السكر والتراكيب الكيميائية: سريعة، لذيذة، ورخيصة.

من المنطقي إذن أن تغزو هذه الأشياء كل مكان. وبعدما كنا نعتمد في طعامنا على ما يتوافر في بيئتنا وعلى ما تحتاجه أجسادنا، يمكننا الآن ببساطة تناول مشروب غازي صُنع في الناحية الأخرى من العالم.

طبعًا حين تتاح لنا كل هذه النكهات القوية والأطعمة الصارخة، يصبح الطعم العادي شديد الإملال. لا فرصة أمام طبق الأرز والدجاج المُعد منزليًا، هذا الطبق البسيط الطيب، في المنافسة أمام أطعمة الدجاج المقلي، الغارق في الزيوت والتوابل القوية، والمغطى بالصوصات المغمورة بالسكر والنكهات.

ومع الوقت والتعوّد، تصبح هذه النكهات البسيطة غير كافية، ويرتبط الإنسان عاطفيًا ونفسيًا بالطعم الصارخ للوجبات الجاهزة والمعالجة. وهذا هو السبب الأول لتضخم مشاكل الأكل العاطفي مؤخرًا. لم يختبر أجدادنا كل هذا، لأنهم لم يجربوا أيًا من هذه النكهات بطبيعة الحال.

البورن الغذائي

من المهم الإشارة إلى أن الحواس المستهدفة لا تقتصر على التذوق فحسب، فالمؤثرات البصرية تلعب دورًا أساسيًا في أيامنا هذه في التأثير على علاقتنا بالطعام.

ها أنت ذا تشاهد فيديو عاديًا على اليوتيوب، فجأة يقفز أمامك برجر عملاق تتوهج فوقه الجبنة والمشروم اللامع. إعلان آخر، تعلم أن ما يُعلن عنه لن يبدو بهذا الجمال غالبًا في الواقع، لكن مشاهدة تلك الفتاة الجميلة وهي تأكله باستمتاع واضح، وبالتصوير البطيء، تدفعك للاتصال بالمطعم في وقتها وطلبه، أو تجعل المشهد يقفز إلى رأسك لا شعوريًا حين تريد تناول الطعام. بل وربما ألقيت نظرة عابرة على صورة عملاقة للبرجر على لافتة نيون في طريق عودتك للمنزل، صورة يغلب عليها اللونان الأحمر والأصفر، ألوان تثير الشهية. فيديوهات قصيرة، ومؤثرون يجربون ويعطونك الانطباع، تصوير للطعام من كافة الزوايا الممكنة.

هل شعرت بالجوع؟ تذكر أن هذا ليس جوعًا حقيقيًا، هذا اشتهاء بمعناه البسيط. يعدك بما هو أكثر من مجرد الأكل وإخماد الجوع. فهذا المطعم يؤكد لك أن السعادة مذابة في طبقات الجبنة، وهذه الفتاة الجميلة تعدك في تقييمها أنك ستحب التجربة كلها، لا الوجبة فحسب.

وفي نفس السياق، دعنا لا نغفل عامل ضيق الوقت. في الماضي، كان لديك اختيار العودة من العمل في الثانية ظهرًا وتجهيز الطعام، أو حتى العودة لتجده جاهزًا بالفعل لأن أحدًا تولى المهمة نيابة عنك. أما الآن، إذا كنت محظوظًا ولا تعمل في المساء، فستعود أنت وزوجتك في الخامسة عصرًا… لو كنا متفائلين.

ما هو الخيار المنطقي الأسهل لتوفير الطاقة والمجهود؟

الطعام الجاهز. ربما ستطلبه حتى في طريق العودة للمنزل فلا تضطر للانتظار.

الأغنياء والفقراء .. الأكل العاطفي للجميع

في البلاد الفقيرة، وبسبب الضغط المادي المستمر، وعدم توفّر البروتين والأكل الصحي بسعر مناسب، يحتاج الناس للشبع بأرخص سعر. فيزداد الإقبال على الطعام الرديء، والنشويات البسيطة كالمكرونة ومنتجات الدقيق الأبيض، بحثًا عن مهرب مؤقت من الضغوط. وهناك ما هو أخطر: اجتماع السكر والزيوت معًا، وما يُصنع منهما من بدائل للشيكولاتة السائلة الغالية والمستوردة. فتزداد الخطورة: خليط ممتاز من رداءة المنتجات والكثير من السكر.

ولو كنت قد ولدت في بلاد فقيرة، عانى فيها أجدادك الكثير، فربما تكون قد ورثت — دون أن تشعر — خوفًا مقيمًا من ندرة الموارد، لهذا تأكل بشره كأن هذا الترف سيختفي، ولذا تتعلق بالأكل مرتفع الدهون مثلًا، لأن أجدادك لم يكونوا قادرين على توفيره.

هل يعني هذا أن الأغنياء لا يعانون من نفس المشكلة؟

في الحقيقة ينتشر الأكل العاطفي كذلك في البلاد الغنية، لكن مع اختلاف الأسباب. فالسبب في هذه الحالة هو ”الوفرة“. آلاف الاختيارات، وسعة دائمة لتجربة أكلات واختراعات جديدة، وفرة في الكميات ونصيب الفرد، وسهولة في خدمات التوصيل. لم لا إذن؟

ما العمل؟

الخطوة الأولى هي نفسها مع جميع المشاكل: أن تعترف أصلًا بوجود مشكلة. وأن إجابة سؤال ”هل أنت جائع؟“ ينبغي أن تكون نعم أو لا. أما لو أجبتها بـ ”لا أعلم لكن سآكل على أي حال“، فهذا يعني وجود مشكلة. ولو لاحظت زيادة استهلاكك من الطعام وتفضيلك لأنواع معينة رغم علمك بأضرارها، فهذا يشير إلى مشكلة عليك الاعتراف بها.

بعد معرفة المشكلة، ينصح الخبراء ببعض الخطوات البسيطة للتقليل من الأكل العاطفي. يمكنك تسجيل ما تأكله ونوعية الطعام وكميته، والأهم سببه: هل تناولته لأنك جائع؟ أم غاضب؟ أم محبط؟ ثم راجع مفكرتك في نهاية الأسبوع، لتعرف نمط تعاملك مع الطعام، والأوقات التي تأكل فيها أكثر من غيرها، ليسهل عليك الاستعداد لها فيما بعد.

والنصيحة الثانية هي تجهيز قائمة بأفعال تخفف عنك توترك، مثل المشي، أو التحدث مع شخص بعينه، أو الاستحمام بالماء الدافئ، أو أي شيء يناسبك. المهم أن تكون القائمة جاهزة ومكتوبة ومعلقة أمامك في مكان ظاهر، ويكون محتواها قابلًا للتطبيق. فلو اخترت مثلًا التلوين كطريقة تخفف من توترك، اجعل ألوانك جاهزة دائمًا في مكان قريب منك، لأننا في أوقات الضغوط نميل لاختيار أسهل طريقة للتعامل معها.

وجود الحلول البديلة يقلل من اعتمادنا على الطعام بوصفه حلًا سهلًا.

والأهم: لا تحاول اختبار نفسك! لا تضع المغريات أمامك وتعتمد على الإرادة، بل حاول التخلص من كل ما يمكن أن يصعب عليك التخلص من الأكل العاطفي: احذف تطبيقات توصيل الطعام، وتوقف عن متابعة صفحات المطاعم على وسائل التواصل الاجتماعي، وتخلص من الأطعمة والمسليات غير الصحية الموجودة في البيت. وحين تذهب إلى التسوق لا تذهب وأنت جائع أو غاضب، وابتعد عن أماكن الأكل المُصنّع في السوبر ماركت، وحدد قائمة مشترواتك قبل النزول من البيت. لا تترك الإعلانات والعروض تحدد لك ما تشتريه.

قد يبدو هذا بديهيًا، لكن أثره لا يصدق: عدّل مشاعرك ناحية الطعام. فهو ليس مكافأة، لكنه ليس عدوًا. بعضنا يبدأ في اتباع حمية غذائية أو محاولة تقليل وزنه، وسرعان ما تتغير مشاعره ناحية الطعام، فترتبط بالذنب. ويبدأ بالامتناع التام أو الأنظمة القاسية، لكن ما يحدث بعد ذلك أن النتيجة تكون عكسية، ويعود لكل ما امتنع عنه بشراهة أكبر. السر هو الاعتدال.

ولو كنت تعاني من الأكل العاطفي، ربما يكون من الأفضل أن تبدأ ببعض العادات البسيطة، مثل تقليل الكميات، فتضع طعامك كله في طبق واحد، وتقسمه ما بين البروتين والخضار والنشويات. أو ربما تغيّر طريقة الطهي، فإذا كنت تحب الدجاج المقلي، لا تلغه من نظامك الغذائي، لكن غيّر طريقة طهيه واستخدم كمية أقل من الزيت، أو استخدم القلايات الكهربائية التي لا تعتمد على الزيوت. وهكذا… تناول وجبتك المفضلة، لكن اجعلها في أكثر صورة صحية ممكنة.

أمر آخر بديهي ننساه، وهو ألا نأكل إلا وقت الجوع، وأن نركّز فيما نفعله. فمن المهم للغاية أن نُشرك كل الحواس في عملية تناول الطعام، وبالتالي لا نأكل أمام التلفزيون مثلًا، بل ننتبه بكل حواسنا لما نأكل، ونستمتع بالطعم والرائحة. ليس هذا ترفًا، بل على العكس، يحسّن ذلك من علاقتنا بالأكل، ويسمح بتقدير كميات ما نأكل.

والأهم، وأول ما يجب أن تعلمه في رحلة تخلصك من الأكل العاطفي، أو حتى أي عادة أخرى، هو إدراك أن كل شيء في هذا العالم يتطلب وقتًا ومجهودًا. كل ما تفعله يكون صعبًا في بدايته، ثم يصبح أكثر سهولة، ثم يتحوّل إلى جزء من اليوم.

والعادات الغذائية ليست استثناءً، بل هي رحلة ممتدة، ربما ستخفق فيها أحيانًا. ولا بأس في ذلك. المهم ألا تغرق في الذنب أو الغضب، بل تعامل معها كاستراحة، ثم استكمل ما تفعله. ولا تنتظر انتهاء الرحلة، أو الوصول إلى وزن بعينه أثناء مرحلة إنقاصه، لتبدأ الاهتمام بنفسك أو الاستمتاع بالمتع الصغيرة. بل افعل هذا في كل يوم، حتى لحظة الوصول إلى الهدف.

الخطوات القصيرة المستمرة أفضل على الدوام من القفزات العملاقة المتقطعة.

شارك هذا الـمقال