اليوم السبت، أستيقظ لأفعل ما أفعله عادة في أي أجازة: أتنقل بين تطبيقات التواصل الاجتماعي. أقرأ نقاشًا مطولًا بين طرفين لا أعرفهما في تعليقات صفحة نادي غزل المحلة، وأشارك في نقاش مشتعل عن منظومة الزواج في مصر على تويتر للمرة التاسعة هذا الشهر.
ثم أنتقل إلى الاختراع الذي اكتشفته منذ أقل من عام: التيك توك. أقلب في الفيديوهات القصيرة والتي — على عكس صفحة نادي غزل المحلة — تتقاطع كلها مع اهتماماتي بشكل ما.
أنتبه لمرور ساعتين فأقرر أن الوقت حان لبداية اليوم. أشاهد الفيديوهات القصيرة في انتظار أن تغلي القهوة، وأقرأ كتابًا بينما أشربها. أقرأ عدة صفحات، ثم أشاهد فيديوهات قصيرة أو أتنقل ما بين تويتر وفيسبوك. وهو ما يحدث حين أشاهد فيلمًا أيضًا، وحين أعمل.
لاحظت أن الأيام التي لا أخرج فيها من المنزل فأحمل الهاتف طوال اليوم، أكون فيها بلا طاقة من أي نوع لفعل شيء، شديدة الغضب، والإرهاق، مع معدل إنجاز مخجل.
يبدأ الأمر وينتهي من دائرة المكافأة في المخ. يشارك الإنسان صورة لوجهه أو فكرة أو تعليقًا ذكيًا ويعجب الآخرون به، أو يشاهد مقطعًا قصيرًا مثيرًا في نصف دقيقة أو أقل، فيفرز المخ هرمون الدوبامين المسؤول عن السعادة. يعجبه هذا الشعور، فيرسل إشارة للقشرة الجبهية مطالبًا فيها بتكرار التجربة، فيُدمن المخ الدوبامين.
أظن أن أسوأ أنواع هذا الإدمان الافتراضي هو إدمان المقاطع القصيرة (الريلز). دفعة هائلة من المشاعر في وقت قصير للغاية تعزلنا عن العالم الخارجي. ساعات طويلة تمر دون مخاطبة إنسان، وحدة من نوع آخر مدفونة تحت أكوام الاستثارات اللحظية والإجهاد العاطفي.
لم يعد الحصول على الدوبامين يتطلب إنجازًا عظيمًا، بل أصبح على بعد ضغطة زر. فيختار مخنا الحل الأسهل، وندفع ثمنه إحساسًا مستمرًا بالملل والفراغ الداخلي والسخط.
عملت لفترة قصيرة في كتابة سيناريوهات المقاطع القصيرة. لم أكن أعلم أن هناك وظيفة بهذا الاسم حتى قادتني الظروف لتجربتها. اكتشفت أن الناس لا يفتحون الكاميرا ويتحدثون فقط هكذا، بل كل ثانية من العشرين ثانية مدة المقطع مدروسة تمامًا.
ومهمة الكاتب هي أن يضع وسيلة جذب HOOK في أول ثانية من المقطع لكي لا ينتقل المشاهد للمقطع التالي، ووسيلة أخرى كل 4 ثوان تقريبًا. هذه الطريقة الوحيدة ليشاهد الناس المقطع. اعتاد مخنا على المبالغة في المثيرات، وإلا فلن يهتم.
لكن أكثر ما كان يؤرقني — غير الإدمان والدوبامين الرخيص — هو إحساسي بأن أيامي تمر بينما أشاهد الحياة من وراء شاشة. ساعات طويلة أتلصص فيها على حيوات الآخرين.
وبحساب ساعات نومي وساعات النشاطات اليومية، ومقارنتها بمتوسط عمر الإنسان، بفرض نجاته من الحوادث والأمراض، سأجد في النهاية أن عمري في هذا العالم قصير جدًا مهما طال. وأنا أحرق الساعات القليلة الباقية في كلام فارغ.
كان إدراك هذا هو السبب الأهم في أن أبدأ في محاولة التعافي من إدمان مواقع التواصل الاجتماعي عمومًا، والمقاطع القصيرة خصوصًا. لم يكن الأمر سهلًا ولم يصبح سهلًا.
يبدأ كل شيء بالتدريج. بدأت بساعة، أضع فيها الهاتف في أبعد نقطة ممكنة عني. ثم حددت وقتًا لتطبيق التيك توك ليغلق تلقائيًا بعد خمس دقائق من بداية استعمالي له. وبمرور الأيام يزداد عدد الساعات.
أحاول أن تكون هذه الساعات في الأوقات المهمة في اليوم: بداية اليوم — فبداية اليوم بالهاتف هي أسوأ بداية ممكنة. وقبل النوم بساعتين أو ثلاث — لأن نهاية اليوم بالشاشات وسيلة لا تخيب لجودة نوم سيئة مليئة بالكوابيس.
بعض الأيام تمر كما أريد، ولا أصدق أني وصلت لنهاية اليوم أخيرًا. وقتها كانت مكافأة الإنجاز مختلفة عن شعور ”الريلز“: أعمق وأكثر رسوخًا. وبعض الأيام الأخرى تمر علي كأي مدمن منتكس. أكتشف في نهاية اليوم أني شاهدت المئات من المقاطع القصيرة، وأن رأسي ممتلئ بأصوات مبتورة تتكرر وراء بعضها بنفس الطريقة التي شاهدتها بها. كنت أخلد للنوم وأنا أشعر أن عقلي الآن يعمل بنفس الطريقة التي يعمل بها عقل القرود.
الجزء الأصعب في كل هذا هو الملل. كنت أفكر أثناء مشاهدة صور طفولتي البعيدة، قبل اختراع الإنترنت الذي عرفته في مراهقتي. فكرت: كيف كان يقضي الناس أوقاتهم؟ كيف تغلبوا على ملل الحياة دون إنترنت؟
ثم اكتشفت الجواب البسيط: لم يروا في الملل عدوًا أصلًا، ولم تكن لحظات الجلوس مع النفس مخيفة.
بدأت تدريبًا بسيطًا: أن أجلس بلا فعل أي شيء. قد تبدو مهمة سهلة، لكنها لم تكن كذلك. لأني اعتدت الجلوس أمام أي شاشة من أي نوع، كبيرة أو صغيرة. في البداية لم أكمل خمس دقائق، ثم بدأ الوقت يطول.
أقضي الوقت في تمارين التنفس، وفي تأمل محيطي وتفاصيله، وفي التفكر في أحوال البلاد والعباد، أو حتى الدندنة. أحيانًا أحاول التصالح مع الملل أثناء المشي. أرفض تمامًا نصائح سماع البودكاست أو غيره. فقط أمشي، منبهرة كأني أكتشف العالم من جديد.
عرفت أنواع سيارات الجيران، وألوان العمارات، وعدد الأشجار، والورود الصغيرة اليتيمة. عرفت أن المنطقة يسكنها أكثر من قطة، لكل منها شخصية: السوداء هادئة، متأملة، لا مبالية. والمشمشية عنيفة وسريعة وغاضبة.
تعرفت أيضًا إلى قبيلة الكلاب التي تستوطن الحي: تسعة كلاب مختلفة الطباع والأحجام. أشياء كثيرة رأيتها للمرة الأولى رغم أني أسير في نفس الشارع منذ سنوات.
لا أنكر أن الحصول على الدوبامين بالطرق البطيئة كـ المشي، والعمل، والرياضة عملية ليست بسيطة. ربما تكون مؤلمة أحيانًا. لكن هذه طبيعة الحياة منذ بدء الخليقة: المكافأة يلزمها سعي طويل لنشعر بطعمها الحقيقي، وإلا فقدت معناها من كثرة التكرار.
ربما تمتد رحلة التخلص من تأثير الدوبامين السريع أيامًا أو شهورًا. لكن كل خطوة هي حركة في طريق حياة هادئة وأقل إزعاجًا.