في كل مرة يُطلب مني أن أقدّم نفسي، في مقابلة عمل، اجتماع، أو حتى جلسة تعارف بسيطة، أُعيد ترتيب رأسي سريعًا: ماذا أقول؟ هل أذكر كل ما فعلته؟ هل أكتفي بعنوان؟ هل أشرح؟ هل سأبدو متفاخرًا؟ وأحيانًا — رغم أنني أنجزت الكثير — أسمع نفسي أقول: ”يعني، اشتغلت كده في كذا حاجة… بسيطة.“
كأنني أعتذر عن إنجازي، أو أطلب إذنًا لذكره، أو أُقلّصه حتى لا يبدو أنني ”شايف نفسي“. وفي كل مرة، أخرج من الموقف وأنا أعرف أنني لم أقدّم نفسي كما يجب. لكنني لم أعرف بعد: كيف أتحدث عن نفسي بثقة… دون أن أخون طبيعتي؟
بين التفاخر والتواضع منطقة حرجة، خصوصًا في بيئات العمل والعلاقات الاجتماعية الحديثة، حيث يُكافأ مَن يُحسن تقديم نفسه، ويُغفل أحيانًا مَن يعمل بصمت. لكن المفارقة أن الإنجاز لا يتكلم دائمًا وحده. وأن التواضع الزائد، أو الخجل من عرض ما أنجزناه، قد يحرمنا من فرص كان يمكن أن تكون لنا، لو أننا فقط قلنا ما نفعله… كما هو، دون مبالغة، ودون خجل.
في علم النفس المهني، يُعرف هذا التردد باسم Imposter Phenomenon — حالة من الشعور بأنك ”لا تستحق ما وصلت إليه“، أو أن إنجازك ”أقل من أن يُقال“، وهي حالة شائعة خاصة بين الأشخاص ذوي الكفاءة المرتفعة… لا العكس. هؤلاء لا يخافون من ألا يُعجبوا الآخرين، بل يخافون أن يُساء فهم ثقتهم، أن يُفسّر كلامهم كاستعراض، أن يُسحب منهم الإنجاز بمجرد أن يُعلنوا عنه.
لكن هناك فرق جوهري بين أن تتفاخر، وأن تُقدّر ما فعلته. الأول يُطالب الآخرين بأن يُبهَروا، الثاني يُطمئن نفسك إلى أنك لم تصل هنا مصادفة.
التحدي يبدأ من اللغة. قل ما فعلته… كما هو، بدون إضافات درامية، وبدون تصغير مصطنع.
بدلًا من: ”اشتغلت شوية في كذا…“
قل: ”كنت مسؤول عن تطوير المشروع الفلاني في الجهة الفلانية.“
بدلًا من: ”يعني أنا حاولت أتعلم كده على قدّي…“
قل: ”أنهيت شهادة في المجال ده خلال ست شهور، وطبقت اللي تعلمته في كذا مشروع.“
الصيغة ليست استعراضًا، بل دقة. وكلما وصفت نفسك بدقة، كلما وفّرت على الآخرين مساحة الشك أو سوء التقدير.
في إحدى المرات، حضرت فعالية تعارف مهني. وكان كل شخص يُعرّف بنفسه في دقيقة. شخصٌ قال ببساطة: ”أنا باشتغل في تطوير المحتوى، وكنت ضمن الفريق اللي اشتغل على مشروع كذا في ٢٠٢٢، واللي أنا فخور بيه لأنه علّمني كتير.“ لم يكن صوته مرتفعًا، ولم يكن حديثه مسرحيًا، لكن نبرة ”الاعتراف الطبيعي بالجهد“ كانت حاضرة. وكانت كافية لأن ألتفت له، وأبني عليه لاحقًا محادثة حقيقية.
المشكلة أننا نربط بين ”عرض الإنجاز“ و”طلب التقدير“، بينما المطلوب فقط هو أن تقول: ”هذا ما فعلته، وهذا ما تعلمته، وهذا ما أنا عليه الآن.“ لا تطلب تصفيقًا، ولا تهرّبًا، بل تُقدّم نفسك كما يليق بها: دون تمويه، ودون تضخيم.
إذا كنت تخشى من أن تبدو متفاخرًا، ضبط نفسك يكون في النبرة لا المعلومة. قل ما أنجزت، ثم اسأل الآخر عن نفسه، اربط إنجازك بتجربة، لا بلقب، وكلما كنت واضحًا مع نفسك بشأن ما فعلته، كلما قلّت حاجتك للدفاع عنه أمام الآخرين.
الثقة ليست أن ترفع صوتك، بل أن تقول جملتك دون أن تعتذر عنها، أن تترك إنجازك يتنفس، وتدع الناس يختارون كيف يقرأونه.
وإن كنت ممن يعملون كثيرًا… لكنهم يترددون في قول ذلك، فتذكّر: أن تنطق باسمك لا يُلغي تواضعك، وأن الصمت المبالغ فيه عن الجهد… ليس فضيلة، بل أحيانًا شكل من أشكال محو الذات.
تكلم، بطريقتك، لكن لا تسكت حين يجب أن تُرى.