⁠الخامسة عصرًا
٦٣٨ كلمة

نحب أن نعتقد أن الصداقة ”علاقة مساواة“، وأن العمل ”مجال موضوعي“ لا تحكمه العواطف.

لكن الواقع يقول شيئًا مختلفًا: لا الصداقة متساوية تمامًا، ولا العمل خالٍ من المشاعر. والخيط الذي يربطهما هو ما لا نراه عادة: ديناميكيات القوة.

حين يدخل العمل على خط الصداقة يصبح أقرب أصدقائك مديرك، أو يترقى زميلك المقرّب فجأة ليصبح مسؤولاً عنك. في لحظة، تتحول علاقة كانت قائمة على التشارك إلى علاقة محكومة بالتقييم، والمواعيد، والتقارير. ليس لأن صديقك تغيّر، بل لأن موقعه تغيّر. والسلطة، وبشكل سحري تمامًا، تغيّر طبيعة العلاقة حتى لو لم نقصد.

يسمّي الباحثون هذا بـ role conflict، أي تضارب الأدوار: حين يصبح للشخص أكثر من هوية في حياتك (صديق + مدير)، وتبدأ هذه الهويات في جذب العلاقة إلى اتجاهات متناقضة. ما كان مساحة للبوح قد يتحول إلى مساحة للحذر، وما كان حديثًا عاديًا قد يصبح محمّلًا بمعنى وظيفي.

الصداقة نفسها ليست مساواة كاملة. حتى خارج العمل، ليست الصداقة دائمًا متكافئة. هناك من يبادر أكثر، من يصغي أكثر، من يحتاج أكثر. وهذه الفروق لا تُلغي الصداقة، لكنها تخلق طبقات من القوة داخلها.

أرسطو تحدث عن ثلاثة أشكال للصداقة:

  • صداقة المنفعة

  • صداقة المتعة

  • وصداقة الفضيلة، حيث يرى كل طرف الآخر كما هو، ويقدّره لذاته لا لما يقدمه.

وكلما تقدّم بنا العمر، ندرك أن النوع الثالث هو ما نبحث عنه فعلًا. لكن الوصول إليه يتطلب أن نعترف بأن المساواة الكاملة وهم جميل، لا قاعدة واقعية. الصديق العزيز ليس من يساويك في كل شيء، بل من يقدّرك رغم الفوارق.

العمل يختبر صداقاتنا. دراسة في Journal of Applied Psychology وجدت أن وجود صديق مقرّب في العمل يزيد من الرضا المهني ويخفف من التوتر بنسبة 30%. لكن نفس الدراسة نبّهت: إذا كان هذا الصديق في موقع سلطة أعلى، تزداد احتمالية شعور الطرف الأضعف بالضغط، أو حتى الاستغلال غير المقصود.

وهنا يظهر السؤال: هل يمكن لصداقة أن تصمد وسط علاقات العمل؟ الإجابة: نعم، لكن بشرط أن نعترف بالفارق. أن نعرف متى نتحدث كأصدقاء، ومتى كزملاء. أن نقبل أن المكتب يفرض لغته، بينما القلب يملك لغته الأخرى. الصداقة التي تنجو ليست تلك التي تُنكر وجود القوة، بل تلك التي تضع لها حدودًا رقيقة.

مواقف يومية تكشف ميزان القوة:

  • زميلك وصديقك في الوقت نفسه يطلب منك أن تنهي مهمة إضافية: هل تراها طلبًا شخصيًا أم تكليفًا وظيفيًا؟

  • صديقة قديمة أصبحت مديرة مشروعك: هل تستطيع أن تعاتبها كما كنت تفعل، أم ستختار الصمت حتى لا تُتَّهم بعدم المهنية؟

  • صديق في المكتب يحظى بحظوة لدى الإدارة: هل تفرح له بصدق، أم تشعر بظل منافسة يُثقل العلاقة؟

هذه المواقف الصغيرة تكشف أن القوة ليست مفهومًا نظريًا، بل تجربة معاشة كل يوم. ولأننا نادرًا ما نتحدث عنها صراحة، تظهر كتوتر صامت، لا كحوار شفاف. القوة لا تفسد بالضرورة. ليست كل قوة استغلالًا. أحيانًا، وجود طرف أقوى يعني وجود طرف راعٍ: صديقك المدير قد يحميك من ضغوط الإدارة، أو يفتح لك بابًا ما كنت لتحظى به. وهذا ما يسميه الفيلسوف فوكو ”القوة المنتِجة“: ليست التي تُقصي، بل التي تنظم العلاقات وتمنحها شكلًا.

لكن الفارق هنا في الكيفية: هل يُمارَس النفوذ برفق؟ هل يُستخدم لفتح المجال؟ أم يُثقل العلاقة حتى تنهار؟

كيف نُبقي على الصداقة حيّة وسط العمل؟

  • الوضوح اللطيف: أن يعرف كل طرف متى يتكلم بصفته زميلًا، ومتى يترك المساحة لصداقتهما. ليس عبر إعلان رسمي، بل عبر حساسية متبادلة.

  • العدالة: ألا نتوقع امتيازات خاصة لمجرد أننا أصدقاء. وألا نشعر بالخذلان إذا لم نحصل عليها.

  • المسافة الصحية: أن نترك مساحة لا يختلط فيها كل شيء، لأن الامتزاج الكامل قد ينهك العلاقة أكثر مما يقوّيها.

  • المرونة: أن نقبل أن بعض الصداقات تُزهر رغم ضغط العمل، وبعضها يذبل… وهذا طبيعي.

العمل يُعلّمنا النظام، والصداقة تُذكّرنا بأننا بشر. لكن حين يلتقيان، يظهر التوتر الخفي لـ ديناميات القوة. والمطلوب منا ليس أن ننكر هذا التوتر، بل أن نتعلم العيش معه برفق: أن نرى الفروق دون أن نفقد الحميمية، وأن نحافظ على المهنية دون أن نُطفئ الصدق.

الصداقة لا تعني مساواة مطلقة، بل فنّ البقاء قريبًا رغم الاختلاف. والعمل لا يقتل الصداقة إذا كنا شجعانًا بما يكفي لنقول:

”أنا زميلك هنا، وصديقك هناك… وأريد أن نحتفظ بكلا الوجهين.“

شارك هذا الـمقال