أجلس أمام البحر في الأيام القليلة التي أختلسها سنويًا للهروب من زحمة القاهرة، وأفكر في كيف يتغير كل شيء في حضور البحر. أصبح أقل غضبًا وأكثر روقانًا، وأضحك بسهولة أكثر على كل شيء، ويقل خوفي من كل ما أخاف منه عادة في المدينة.
بعد تفكير، توصلت لأن السبب ليس البحر في حد ذاته، بل السعة التي أجدها في حضوره. أجلس على الشاطئ وأحاول الوصول لنهاية البحر فلا أجدها، واسع إلى ما لا نهاية. أنظر للسماء ليلًا فأرى النجوم بسهولة لانخفاض المباني وقلة الإضاءة على عكس القاهرة، وأشعر بأن السماء كبيرة ولا نهائية، والنجوم بعيدة والمسافات واسعة.
تحرمنا المدن المزدحمة من شعور السعة: أبراج عالية تحجب السماء، مساكن بأسقف منخفضة وغرف مكتظة، وأشجار مقطوعة استعدادًا ليحتل مكانها كتل أسمنتية جديدة. حتى النهر الواسع، تصطف على جانبيه المباني والمراكب التجارية وقاعات الأفراح فيصبح محدودًا هو الآخر. لا تحتوي مدننا غابات نهرب لها، ولا بحرًا متاحًا بالمجان نلجأ له، ولا أماكن مفتوحة بسماء واسعة نرنو إليها.
ينتقل شعور الضيق بالمكان لنظرتنا لكل شيء آخر. في العمل نرى الفرص محدودة واحتماليات الترقي قليلة، وفي تعاملاتنا اليومية نقود سياراتنا بغضب ونشتبك مع الآخرين. نصاب بالقلق والخوف والاكتئاب لأننا نرى العالم صغيرًا، وكل ما يفوتنا لا يمكن تعويضه، وكل ما خسرناه خسرناه للأبد. لأن الإنسان ابن بيئته كما قال ابن خلدون.
بينما الحقيقة أن العالم كبير، أكبر مما نظن، وننسى ذلك في زحام الحياة اليومية والتفاصيل المرهقة. لكن لو كانت الحياة وسط الضيق قدرنا، فلا شك أن هناك وسيلة ما لتوسعة هذا الضيق ولو قليلًا.
ربما يمكننا مثلًا تخصيص وقت أسبوعي للجلوس في مكان مفتوح والتأمل: كحديقة عامة، أو كورنيش النيل، أو حتى شارع على أطراف المدينة يمكننا رؤية السماء منه. المهم أن نجد مكانًا لا يمكننا الوصول لنهايته بعيوننا، حتى لو كان سطح المنزل.
وإذا استحالت كل الأسباب، ولم نجد شارعًا واحدًا يصلح للمسير، ربما يمكننا أن نبحث عن السعة بداخلنا. أن نداوم على تذكير أنفسنا بأن العالم كبير، والفرص كثيرة، والاحتمالات لا نهائية. يرى باشلار في جماليات المكان أن الخيال عندما يستحوذ على مساحة ما فإن الغرفة الضيقة يمكنها أن تصبح كونًا واسعًا من الأحلام. وأن منازلنا هي امتداد لنفوسنا أيضًا، كما تؤثر فينا فهي انعكاس لما في قلبنا. فإذا غيرنا نظرتنا، وتفكرنا في الكون الفسيح والذكريات الطيبة، سنرى البيت الضيق بعين جديدة.
كنت غالبًا أعود من إجازتي خفيفة القلب حتى أرى الطريق الدائري في مدخل القاهرة فتزول عني كل بهجة. إلى أن قررت أن أغير نظرتي هذا العام. كنت أفكر في طريق العودة في الأمير الصغير حين التقى بالثعلب، فعلمه الثعلب أن ما هو أساسي هو غير مرئي بالعين، أي أن الأشياء الأكثر قيمة، والتي تمنح الحياة معناها، لا يمكن رؤيتها: كالحب والرضا.
فقررت أن أعمل بنصيحة الثعلب، وأفكر في الأشياء الأكثر أهمية التي تجعلني أكثر هدوءًا، حتى لو كان هذا على الطريق الدائري أو في مكتب مغلق. يخبرنا الأمير الصغير أيضًا بأن كل الكبار كانوا أطفالًا يومًا ما، بخيال واسع وقلب شجاع منفتح على كل الاحتمالات الممكنة. لكن المعظم ينسى هذا حين يكبر، والتحدي الحقيقي هو أن نتذكر كيف يرى الطفل الأشياء، ويصنع — مستخدمًا خياله فقط — من الغرفة الضيقة غابة وبحرًا وسماء.