في بدايات المشاريع، يسود وهمٌ ما: أن الفكرة الجيدة كافية. أن نُدهش الآخرين حين نرويها، أن نشعر بالشغف حين نخطّها في دفاترنا، أن يقال لنا: ”نفّذ فورًا“، كل هذا يمنحنا إحساسًا بالانطلاق. لكن الواقع يقول شيئًا آخر: أن معظم الأفكار لا تسقط لأنها سيئة، بل لأنها لم تُختبر.
في دراسة شهيرة نشرها موقع CBInsights بعد تحليل 100 مشروع ناشئ فاشل، تبيّن أن السبب الأول للفشل في 42% من الحالات هو ببساطة: عدم وجود حاجة حقيقية للفكرة. ليس لأن الفكرة لم تكن ”مُلهمة“، بل لأن أصحابها لم يسألوا: من سيستخدم هذا الشيء فعلًا؟ ما المشكلة التي نحلّها؟ هل هي مشكلة مؤلمة بما يكفي ليدفع الناس مقابل حلها؟
إن أول معيار يجعل فكرتك صالحة لأن تتحوّل إلى مشروع هو أن تُخدم حاجة عند فئة محددة من الناس. هذه الحاجة ليست شرطًا أن تكون تكنولوجية أو اقتصادية، قد تكون جمالية، نفسية، اجتماعية. المهم أن يجد أحدهم في فكرتك ما يسهّل عليه يومه أو يُشعره بأنه مفهوم. المشاريع لا تبدأ من الرغبة في الإنجاز، بل من الإصغاء لما ينقص العالم.
لكن الحاجة وحدها لا تكفي. في كتاب The Mom Test، يشرح Rob Fitzpatrick كيف أن أصحاب المشاريع يفشلون لأنهم يكتفون بسؤال الناس إن كانت فكرتهم ”تعجبهم“، بدلاً من اختبار الفكرة في الواقع. يقول:
”الناس يجاملونك حتى في فشلك. لا تسألهم عن رأيهم، راقب أفعالهم.“
لذلك، المعيار الثاني: هل خرجت بفكرتك من غرفة التفكير؟ لا مشروع يولد جاهزًا. كل فكرة تحتاج أن تختبر اصطدامها بالعالم. أن تُبنى منها صفحة واحدة. نموذج أولي بسيط. تسجيل صوتي. قطعة صغيرة يمكن أن تُستخدم أو تُرفض.
المشاريع التي تنجح هي تلك التي تبدأ من الحد الأدنى القابل للتنفيذ (MVP)، أي أصغر صيغة ممكنة من الفكرة تؤدي الوظيفة الأساسية.
وهذا ما تؤكده دراسة منشورة في MIT Sloan Management، حيث وُجد أن الفرق التي تبدأ بنموذج أولي بدائي تتعلّم أسرع وتتفادى المخاطر الكبرى في مراحل مبكرة.
مثلًا: مشروع Mailchimp الشهير لم يبدأ كمنصة متكاملة لإدارة البريد الإلكتروني. بدأ كأداة صغيرة لمساعدة شركات صغيرة على إرسال نشرات بسيطة. لكن حين ظهرت الحاجة، وتكررت الاستخدامات، وبدأ المال يتدفق، توسع المشروع تلقائيًا.
المعيار الثالث هو القدرة على البناء بما تملك الآن. كثير من الأفكار تفشل لأن أصحابها يربطون التنفيذ بميزانية كبيرة، أو شركاء مثاليين، أو توقيت غير متاح. لكن المشاريع الناجحة تبدأ قبل أن تكتمل الظروف. يقول Austin Kleon في كتابه Show Your Work!:
”إذا انتظرت حتى يكتمل الشيء ليُعرض، فلن تُكمل شيئًا أبدًا.“
المشروع لا يولد حين تكون مستعدًا بالكامل. بل حين تخلق خطوة أولى كاملة بما هو بين يديك الآن. خطوة يمكن أن تُرى، وتُجرب، وتُعدّل.
ثم تأتي الجدية. ليست الجدية هنا توترًا ولا جمودًا، بل قدرتك على تخصيص وقت أسبوعي منتظم، ميزانية تجريبية صغيرة، ومساحة ذهنية مستقلة لهذه الفكرة. أن تفصل بينها وبين بقية أفكارك العائمة. أن تتعامل معها كما لو كانت حديقة تحتاج سقيًا كل يوم. لا يكفي أن تحلم بالمشروع. عليك أن تُعطيه روتينًا.
وإن شئنا الصراحة، فلا أحد يملك دليلًا قاطعًا بأن فكرته ستنجح. لكننا نملك القدرة على تفكيك السؤال الكبير إلى اختبارات صغيرة:
• هل هناك من يحتاجها فعلًا؟
• هل أستطيع البدء بها غدًا، ولو بأبسط شكل؟
• هل تملك ملامح تجعلها قابلة للنمو حتى من غيري؟
هذه هي الخطوة الأولى الكاملة. لا وعد بالنجاح، بل وضوح في البداية. وما إن تتضح، لا تعود الفكرة مجرد حلم، بل تتحول إلى مشروع، ولو كان صغيرًا، لكنه يمشي وحده.