في لحظة ما، لا تعود الفكرة مجرد فكرة. تتحوّل إلى شيء أكبر من موضوع عمل أو منتج أو حل. تصبح امتدادًا لشخصك. لماضيك. لأمنية دفينة فيك. وهنا تبدأ العلاقة المعقّدة: بينك وبين مشروعك، لا كمنشئٍ ومنتَج، بل ككائنين يتبادلان الأدوار: تخلقه فيخلقك، تبنيه فيبنيك. وفي خضمّ هذه العلاقة، هناك سؤال لا يُطرح كثيرًا، لكنه حاسم: هل هذا المشروع قادر على تحمّل وزنك العاطفي؟
وزنك العاطفي هو كل ما تُسقِطه عليه: الخوف من الفشل، الحاجة للاعتراف، الرغبة في أن تبرهن أنك لست عاديًا، محاولتك للشفاء من خيبة قديمة عبر النجاح الآن. إنه ليس شغفك فقط، بل كل ما لم تُفلح في قوله سابقًا. لكن المشاريع ليست علاجًا. ليست مصحّات نفسية. ولا يُفترض بها أن تداويك.
لأنها حين تُحمَّل بأثقالك كلها، تتصدّع. وحين تنهار، لا ينهار معها العمل فقط، بل تنهار معه صورتك عن ذاتك.
في كتاب The Creative Act للموسيقي والمنتج ريك روبن، يميّز بين المشروع الذي ينبع من ”حاجة داخلية للخلق“ والمشروع الذي يُستخدم كـ”وسيلة لإثبات الذات“. الثاني مُهدَّد دومًا. لأنه إن لم يُعجب الآخرين، فإن صاحبه يرى نفسه فاشلًا بالكامل. بينما الأول يملك استقلالية وجدانية. لا يعتمد على التقدير، بل على صدق التجربة.
وهذا الفارق جوهري: هل مشروعك قائم على معنى، أم على تعويض؟ المشاريع التي تنبع من معنى، حتى لو كان بسيطًا كأن تصنع شيئًا ينفع شخصًا مثلك، لديها قدرة أعلى على الاستمرار، لأنها لا ترتبط بهشاشة المزاج أو تقلب التقدير. بينما المشاريع التي تُحمَّل برسائل إثباتية، لأب غائب، لأم متسلطة، أو مجتمع لا يرى، أو أصدقاء أنكروا، فإنها تُبنى من الداخل على خوف لا يُقال.
لكن ما الذي يجعل المشروع فعلًا قادرًا على تحمّلك؟ أولًا: أن لا يُختزل فيك. أن تصممه بحيث يعيش، ولو جزئيًا، بدونك. ليس لأنك تتهرّب، بل لأنك تحميه من تقلّبك. ثانيًا: أن تسمح لنفسك بأن تكون بخير حتى لو لم ينجح. ثالثًا: أن تُبقي بينك وبين مشروعك مسافة عاطفية صحية.
وهذا لا يعني البرود، بل أن لا تجعل منه مرآة وجودك.
في علم النفس التنظيمي، يظهر مفهوم يُدعى emotional over-investment، أي الانخراط العاطفي الزائد في العمل. الدراسات تشير إلى أن هذا الانخراط، وإن بدا نابعًا من الحماسة، يؤدي إلى معدلات احتراق وظيفي عالية، وفقدان البوصلة، والتهشّم عند أول إخفاق.
أن تُحب ما تفعل لا يعني أن تربط مصيرك به. وأن تؤمن به، لا يعني أن تجعل منه كل ما تمثّله. ربما المشروع الناجح هو ذاك الذي يمكنك تركه ليومين دون أن تشعر أنك فقدت نفسك. هو الذي إن فشل، تُحزن عليه، لكنك لا تنهار. هو الذي تُعطيه من قلبك، لا قلبك كله.
وإن كنت تبنيه الآن، فاسأل نفسك بصراحة: هل أريده أن ينجح، أم أحتاجه لينجح كي أشعر أنني لست عديم الجدوى؟
الفرق بين الاثنين هو الفرق بين مشروع يعيش… ومشروع يلتهم صاحبه.