هناك ٤٨ رسالة غير مقروءة في هاتفي الآن. أعرف أن نصفها لا يهم، وربُعها لا يحتاج ردًّا، لكن وجودها وحده كافٍ ليجعلني أشعر أنني إنسان سيئ. أنني قصّرت. تجاهلت. أخفقت. لكن الحقيقة الأعمق هي أنني، ببساطة، لا أملك الطاقة للردّ الآن.
هذه الحالة ليست نادرة. بل تكاد تكون القاعدة في عصر الرسائل الفورية. يعتقد كثيرون أن التوتر من الرسائل سببه ضيق الوقت أو قلة التركيز، لكن علم النفس السلوكي يقدّم تفسيرًا مختلفًا: إنها طبيعة القرار ذاته.
روي باوميستر، عالم النفس، يشرح أن كل رسالة، مهما بدت بسيطة، تمثّل ”قرارًا صغيرًا“ يتطلّب منك انتباهًا، اختيارًا، وتحمّلًا للعواقب. وهذا ما يُسمى بـ ”إرهاق القرار“ (Decision Fatigue) — حين تستهلك كثرة الخيارات اليومية طاقتك الذهنية، فتصير أقل حماسة لفعل أبسط الأشياء، مثل فتح محادثة أو الرد بجملة واحدة.
بمعنى آخر: ليست المشكلة في طول الرسالة، بل في أنها تطلب منك أن ”تفعل شيئًا الآن“، وأنت لا تملك حتى طاقة أن تقرر. ولهذا، كثيرًا ما نُؤجل. وننسى. ثم نشعر بالذنب. ثم نبتكر حيلاً صامتة: نفتح دون قراءة. نقرأ دون فتح. نضع الرسالة في ”غير مقروءة“ كي لا تضغطنا. نحذف الإشعار وننتظر أن تتلاشى الحاجة للرد. لكنها لا تتلاشى. بل تتحوّل إلى حملٍ داخلي لا يرى الناس شكله، لكنه حاضر في الرأس كطنين.
في دراسة من جامعة McGill الكندية، تبيّن أن ٧٣٪ من الشباب يؤجلون الرد على رسائل قصيرة رغم قراءتها، لأنهم ”غير مستعدّين نفسيًا“. هذه العبارة الصغيرة — غير مستعد — تختصر علاقة جيل كامل بتطبيق بسيط: واتساب لا يستهلك وقتنا فقط، بل يعيد تشكيل إحساسنا بالزمن، بالذنب، وبالإحراج الاجتماعي.
العالِم السلوكي دان أرييلي لاحظ أن البشر لا يختارون الأفضل، بل الأقرب للراحة. ولهذا نؤجل الرد. ليس لأننا لا نريد، بل لأننا نخشى الدخول في محادثة لا نعرف كيف ننهيها. أو لأننا نشعر أن أي رد الآن سيكون ناقصًا، متسرّعًا، لا يليق. فنفضّل الصمت. ثم ندفع ثمنه لاحقًا، تأنيبًا أو فتورًا في العلاقات.
فما الحل؟ كيف نُخفّف من وطأة الرسائل دون أن نهرب منها أو نؤذي علاقاتنا؟ كيف نردّ دون أن نحترق، ونتأخر دون أن نختفي؟
إليك ثلاث طرق عملية، مدروسة علميًا، يمكن أن تغيّر علاقتك بواتساب وغيره، دون الحاجة لحذف التطبيق أو الانقطاع عن العالم:
١. روتين الاستجابة المحددة (Harvard Business Review – 2022)
دراسة نُشرت في هارفارد تبيّن أن تخصيص أوقات ثابتة للرد على الرسائل، بدل الرد العشوائي، يقلل التوتر والانشغال العقلي بنسبة ٤٢٪.
الاقتراح بسيط: حدّد ثلاث محطات يومية فقط (مثل: ٩ صباحًا، ٢ ظهرًا، ٧ مساءً) تفتح فيها الرسائل وترد على ما تستطيع. في الأوقات الأخرى، دع الهاتف جانبًا، واترك الرسائل تنتظر. المبدأ هنا هو استعادة التحكم: أن تكون أنت من يُحدّد متى تتفاعل، لا أن تُستدعى في كل لحظة.
هذا لا يبطئ حياتك، بل يُسرّعك من حيث لا تدري. لأنه يُقلّل من مقاطعات اللحظة، ويمنحك القدرة على التركيز في ما تفعل فعلًا، لا في ما يجب أن تفعله بعد قليل.
٢. الاستجابة القصيرة الكاملة (Cal Newport – Deep Work)
كال نيوبورت، الباحث في علوم الحاسوب وصاحب كتاب ”العمل العميق“، لاحظ أن كثيرًا من التوتر المرتبط بالرسائل يأتي من توقّع الذات لرد مثالي. فنُؤجل الرد حتى نجد الصيغة المناسبة، أو المزاج المناسب، أو الوقت الكافي.
لكن في الواقع، الردّ القصير الحاسم أفضل من الصمت الطويل المرتبك.
نيوبورت يوصي باستخدام ما يسميه ”الاستجابة القصيرة الكاملة“: جملة واحدة فقط توصل الفكرة وتنهي الحاجة للمتابعة الآن. مثلًا:
-
”شكرًا، وصلت رسالتك، وسأعود لك خلال يومين.“
-
”قرأت كل شيء، وسأرد بشكل أفضل لاحقًا.“
هذه الرسائل البسيطة تُهدّئ العلاقة، تزيل الغموض، وتقلّل من التوتر الناتج عن الانتظار المتبادل.
٣. أرشفة الرسائل بدل تأجيلها (Stanford – Attention Studies Lab)
في جامعة ستانفورد، درس الباحثون تأثير بقاء الرسائل غير المُجابة في واجهة الهاتف على الحالة المزاجية، ووجدوا أنها تُبقي الدماغ في حالة ”تنبيه دائم“، حتى لو لم نفتحها.
الحل المقترح: أرشِف كل رسالة لا يمكنك الردّ عليها الآن. لا تتركها في الصفحة الأولى من واتساب. هذا الفعل البسيط يُفعّل في الدماغ ما يسمّى بـ ”إغلاق الحلقة المفتوحة“ — وهي فكرة مأخوذة من تأثير Zeigarnik، الذي يقول إن المهام غير المكتملة تُزعج الذاكرة العاملة وتمنع التركيز. حين تُخرج الرسالة من الشاشة، تُخرجها من وعيك. وهذا لا يعني تجاهلها، بل ترتيب أولويّتها.
لكن هل هذا يكفي فعلًا؟ ربما لا. لأن الحل ليس سلوكيًا فقط، بل نفسي أيضًا.
يحتاج الأمر إلى مراجعة صامتة لعلاقتنا بالتواصل، وبالذات. أن نسأل: لماذا نخاف من التأخير؟ ولماذا نحمل أنفسنا هذا العبء العاطفي كلما رأينا إشعارًا صغيرًا على الشاشة؟ هل العلاقة التي تنهار بسبب تأخير في الرد كانت علاقة حقيقية أصلًا؟ وهل نمنح الآخرين نفس المساحة التي نطلبها لأنفسنا؟
ربما نحتاج أن نُعيد تعريف ”الردّ“ من جديد: أن نفهم أن الصمت أحيانًا شكل من أشكال التفكير، وأن بعض الرسائل تحتاج وقتًا لتُفهَم قبل أن تُجاب، وأننا لسنا ملزمين بأن نكون حاضرين طوال الوقت كي نُثبت أننا نحب، أو نعرف، أو نهتم.
وفي النهاية، الإنسان ليس روبوتًا، ولا مركز خدمة عملاء. وواتساب — مهما بدا بسيطًا — ليس مجرد تطبيق، بل اختراع أعاد تعريف الحضور، والمسؤولية، والصمت.