⁠الخامسة عصرًا
٤٨٦ كلمة

”سبع صنايع، والبَخت ضايع“، يقول المثل.

وفي خلفيته نبرة تحذير: لا تكثر من التجريب، لا تبعثر مهاراتك، لا تثق بمن لا يملك عنوانًا مهنيًا واحدًا. لكن، ماذا لو كان البَخت الضائع ليس في عدد الصنايع، بل في التصور الضيق عمّا يجب أن نكونه؟

في المدرسة، وفي طلبات التقديم، وفي اللقاءات العائلية، يُطرح السؤال نفسه: ما هو تخصصك؟ كأن على الإنسان أن يختار بطاقة تعريف ثابتة، واحدة، لا تتغير. لكن من قال إن البشر يُختصرون بتخصص؟ أو أن المهنة تُختار مرّة واحدة ثم تُغلق إلى الأبد؟

في علم النفس المهني، ظهر مؤخرًا مصطلح “Multipotentialite” — أي الشخص متعدد الإمكانات، الذي لا يملك شغفًا واحدًا بل فضولًا موزعًا على مجالات عدة. هذا النوع لا يتنقل بين الاهتمامات بسبب ضياع، بل لأن تركيبته العقلية والنفسية ترى العالم كنسيج مترابط. بالنسبة له، التنقل ليس قفزًا، بل بناء.

مشكلة المجتمع مع ”متعددي الصنايع“ ليست في أدائهم، بل في صعوبة تصنيفهم. في بيئة تعتبر أن الجدّية تعني الاستمرار في شيء واحد، يصبح التنوّع مريبًا. لكن الواقع يتغير. وظائف كثيرة اليوم لم تكن موجودة قبل خمس سنوات، وسوق العمل نفسه أصبح أكثر تقاطعًا: يحتاج المهندس إلى الحس البصري، والمصمم إلى مبادئ علم النفس، ورائد الأعمال إلى لغة السرد.

من يعرف أكثر من مجال لا يتشتت بالضرورة، بل يكون أكثر قدرة على ربط النقاط. المفكر الأمريكي ديفيد إبستاين كتب كتابًا بعنوان Range، يقول فيه إن الأشخاص الذين جرّبوا مجالات متنوعة، حتى لو تأخروا في التخصص، غالبًا ما يتفوقون لاحقًا على من سلكوا طريقًا واحدًا منذ البداية. ليس لأنهم أذكى، بل لأنهم أوسع خيالًا، وأكثر مرونة في حل المشكلات.

وفي السياق العربي، كم من كاتب كان في الأصل طبيبًا، وكم من رائد أعمال بدأ مسيرته في الترجمة أو البرمجة أو الإخراج؟ هل كانت تلك خطوات خاطئة؟ أم أنها ما جعلته في النهاية متفردًا؟

المشكلة تبدأ حين يُفرض على الشاب أن يختار تخصصه في عمر لم يختبر فيه نفسه بعد. كأن يُطلب من مراهق أن يحدد مصيره المهني إلى الأبد. ولهذا، حين يدخل العالم الفعلي، يبدأ في التنقّل، لا لأنه ضائع، بل لأنه يكتشف. وليس من العدل أن يُعاقب على هذا الاكتشاف بوصفه مشتتًا أو غير جاد.

لكنّ التعدد لا يعني العشوائية. أن تكون صاحب سبع صنايع لا يعني أن تملك سبع بطاقات تعريف خاوية، بل أن تمتلك هوية متماسكة يمكن أن تُمارس بأكثر من لغة. المهم أن يكون بين هذه الصنايع نواة صلبة: فكرة، قيمة، طريقة تفكير، لا مجرد تنقّل فارغ. التنويع الذكي ليس تكديسًا، بل تنغيم.

ربما نحتاج إلى تغيير السؤال من: ”ما هو تخصصك؟“ إلى:
”ما هي أدواتك؟“
أو: ”ما هو فضولك؟“
أو حتى: ”كيف ترى نفسك مفيدًا في أكثر من سياق؟“

أسئلة تسمح للإنسان بأن يكون أكثر من مهنة، دون أن يشعر أنه أقل استقرارًا.

”سبع صنايع“ ليست نقمة إذا كان المرء يعرف كيف يُنسّق بينها. البَخت لا يضيع لأننا متعددو الاتجاهات، بل حين نُجبر أنفسنا على الضيق. ليس الهدف أن نُثبت أننا ”ثابتون“، بل أن نُثبت أن التعدد قد يكون طريقة أصدق للثبات، لأنه يشبه تعقيدنا الفعلي، لا الصورة المبسطة التي وُعدنا بها.

شارك هذا الـمقال