⁠العاشرة مساءً
٨٢٤ كلمة

في طفولتي، لم أسمع أحدًا يتحدث أبدًا عن الحب بوصفه مهارة يمكن للمرء أن يتعلمها.

كان المتحدث يتعمد، حين يتحدث عن الحب، أن يخرج كلامه مشوهًا. يمزجه بكل ما يمكن أن يخفي ملامح هذا الحب من أسلحة لغوية وعاطفية: الخجل أو المزاح أو الكلام المبتور أو حتى وعد مستقبلي مشروط بالطاعة.

الحب يُمنح لمن يستحقه.

”عشان أحبك“ عليك أن تفعل شيئًا ما، حتى لو كان لمصلحتك. حتى لو كان أن تأكل وجبتك اليومية. المهم أن عليك أن تفعل شيئًا ما حتى تكون جديرًا به.

لم أشعر يومًا أنه حق.

ثم كبرتُ لأفهم أن كثيرين منا لم يروا نموذجًا واضحًا للحب، ولكن سلسلة من المقايضات العاطفية.

”لو بتحبني مش هتزعلني“.

تربّى معظمنا على خوفٍ يلبس قناع المودة. ثم كبرنا فصرنا نبحث عن الحب ونحن لا نعرف شكله، نقترب منه بأيدٍ مرتجفة، نحمله ونكسره في الوقت نفسه لأننا لا نعرف كيف نتعامل معه.

Bell Hooks تقول إن غياب نموذج الحب في الطفولة يجعلنا ندخل عالم الكبار بقلوب غير مؤهلة. لا نعرف كيف نعبّر، ولا كيف نتلقّى.

نتعلّم أن نعيش بقلبٍ خائف نحمي أنفسنا من الخيبة أكثر مما نسمح لأنفسنا بالحميمية. لهذا تنكسر كثير من العلاقات بسبب الخوف من الحب لا غيابه.

كثير منا إذن، بشكل ما، يحمل داخله طفلًا لم يحظ بما يستحق من الحب وما زال يبحث عن ذلك الأمان المفقود في وجوه الآخرين وأفعالهم.

لكننا حين نفكر في الحب بوصفه شيئًا يمكن تعلمه، نكتشف أنه أيضًا يمكن أن يُمارَس ويُعاد اختراعه.

الحب مهارة تُبنى بالصدق والاهتمام والاختيار الواعي.

جيلنا يحاول أن يُعيد تعريف الحب من تحت الركام، أن يصنع له معنى جديدًا بعيدًا عن الجمل المحفوظة والإعلانات المزيّفة التي تحيطنا سواء بسبب الأفلام أو الميديا بشكل عام.

نحاول أن نحب رغم عدم خبرتنا، أن نكون رُحماء رغم قسوة ما تلقّيناه، أن نكسر دائرة الخوف باللطف.

هذه المحاولة وإن كانت مرتبكة هي بذاتها تمرين على الشفاء، وخطوة أولى مهمة لفهم الحب وما نستحق.

لا يقف التحدّي الحقيقي عند حدود التجربة الشخصية. العالم من حولنا لا يساعدنا على الحب. نعيش في زمنٍ يجعل كل شيء قابلًا للبيع، حتى العاطفة.

الصور المفلترة على إنستغرام، والإعلانات التي تساوي بين الحب والهدايا، وتطبيقات المواعدة التي تختصر العلاقات في معادلات سريعة، كل ذلك يجعلنا نعيش داخل سوقٍ للعواطف.

الحب لم يعد يُقاس بالدفء، بل بالظهور. صار مشهدًا نُنتجه لا شعورًا نعيشه. لكن الحب، في هذا المناخ، يصبح فعلًا ثوريًا بحد ذاته.

أن تحب ببطء في زمن السرعة هو تمرّد ضروري. أن تمنح وقتك دون مقابل، وأن تُصغي دون نفعية، وأن ترى الآخر بوصفه عالمًا قائمًا بذاته لا كوسيلة… هذه كلها أعمال ثورية صامتة وصاخبة في أثرها.

أن نحب يعني أن نتذكّر أننا بشر لا منتجات.

أن نحب هو أن نستعيد قدرتنا على أن نُدهش، وأن نخاف، وأن نرتبك، وأن نكون أحياء فعلاً.

لكن هذا الفعل ”المقاومة بالحب“ لن يكتمل دون أن نواجه ما تفعله مجتمعاتنا بالرجال قبل النساء.

سرقت الذكورة التقليدية من الرجال لغتهم العاطفية. علمتهم أن القوة تعني الكتمان وأن الرجولة تُقاس بعدد المرات التي لم يبكوا فيها.

Bell Hooks كتبت:

“Patriarchy has no language for love.”

وهذا حقيقي! النظام الأبوي لا يعرف لغة العاطفة، يعرف لغة الامتلاك. لا يقول ”أنا أحبك“ بل يقول ”أنت لي“.

تنشأ أجيال تخلط بين الحماية والسيطرة، وبين الرعاية والتملّك، وبين الشغف والهيمنة.

كيف يمكن للرجال أن يتعلّموا الحب في ظروف كهذه؟

كيف يثق رجلٌ في عاطفته إذا تربّى على أن الحنان ضعف؟ كيف يقول ”أنا أحتاجك“ دون أن يشعر بالخزي؟

ربما أول خطوة في طريق الحب الحقيقي هي أن نعيد تعريف القوة: أن تكون قويًا لا يعني أن لا تبكي، أن تكون قويًا يعني أن تجرؤ على أن تكون صادقًا رغم أن كل ما حولك يدفعك للكذب.

أن تكون رجلًا لا يعني أن تُخفي ضعفك، بل أن تستخدمه كجسر لا كدرع. لأن الحب يتطلب منّا أن نكون حقيقيين لا أن نكون كامليْن. وهو بالتأكيد ليس ملاذًا من العالم، ولكنه طريقة مختلفة للعيش فيه.

وربما لهذا السبب قالت Bell Hooks إن:

“Love is the practice of freedom.”

الحب هو ممارسة شجاعة ومقدامة للحرية. وذلك لأنه يحررنا من الصور الجاهزة، من القوالب، من الصور المفروضة.

يجعلنا الحب قادرين على تجاوز فكرة ”من يربح ومن يخسر“؛ يجعلنا نرى أن العلاقة مساحة تعلّم، لا ساحة معركة كما تم الترويج لها دائمًا.

كل علاقة فاشلة هي فصل من فصول التعرّف على النفس، وكل خيبة حب هي نافذة صغيرة نحو وعيٍ أوسع بالإنسان بنفسك والآخر.

أكتب هذا الآن وأدرك أنني، مثل كثيرين، ما زلت أتعلّم الحب. أتعلّمه من الأخطاء، من الغياب، من محاولاتي غير المكتملة.

أتعلّمه من الأصدقاء الذين يمدّون أيديهم بلطف، ومن الغرباء الذين يبتسمون دون مصلحة، ومن الأماكن التي تُذكّرني أنني لست وحيدة في بحثي عن معنى البيت داخل القلب.

أفهم الآن أن الحب هو محاولة للحفاظ على النفس في عالمٍ يزداد قسوة. هو أن تمنح، وتخسر، وأن تعود لتمنح من جديد. وأن تظل قادرًا على الحنان حتى بعد أن ينكسر قلبك، وأن لا تخاف. أن تحاول من جديد!

ربما لا نعرف كيف نحب بعد، لكننا نحاول.

هذه المحاولة في ذاتها شكل من أشكال الحب.

أن نحاول رغم الخوف، ورغم الإرث القديم، ورغم العالم الذي يطلب منّا أن نكون أقوياء أكثر مما نكون صادقين.

أن نتكلّم حتى ونحن نتلعثم.

هذا، مؤقتًا على الأقل، يكفيني من الحب.

شارك هذا الـمقال