⁠العاشرة مساءً
٦٩٥ كلمة

مشهد متكرر محفور في ذاكرتي مما تبقى لي عن فكرة الجار:

عمارة من أربع طوابق، كل طابق يحتوي على اثنتي عشر شقة. العشرات من الجيران نكاد نعرفهم بعائلاتهم كاملة.

يُطرَق بابنا عصرًا لنجد ابن جارتنا الصغير يحمل صحنًا بعدما طلبت منه أمه أن تستعير منا بصلتين لإكمال طبختها بعد أن اكتشفت فجأةً أن مخزونها من البصل قد نفد، تحمّل أمي الصحن بعدد من البصلات يفوق الاثنين بالتأكيد. بعد ساعة يُطرق الباب من جديد، فإذا بالصحن نفسه يعود، لكن هذه المرة ممتلئ بما لذ وتيسّر من غدائهم ذلك اليوم.

هذا المشهد يجعلني أفكر، لماذا لا أعرف جيراني اليوم؟

أفكر في الرحلة الطويلة التي قطعناها من القرية إلى المدينة، ثم من المدينة إلى الكومباوند، كأنها محاولة مستمرة للهروب من شيء ما. الهروب من ضيق المكان، من العيون المراقبة، من الآذان التي تهتم بأخبارك أكثر مما تهتم بأنفسها.

ففي القرية، كانت الحياة تبدو كأنها كتاب مفتوح: كل حركة تُرى، كل سرٍ يُكشف، كل خطوة محسوبة. وحين جئنا إلى المدينة، تخيلنا أنها ستمنحنا الحرية. طرق واسعة، بنايات شاهقة، حياة لا يسأل فيها أحد عنك، ووجوه كثيرة تذوب فيها ملامحك. ثم جاء الكومباوند، نسخة حديثة من القرية القديمة، مجتمع صغير.. لكن بأسوار عالية وكاميرات أمان. لا أحد يعرفك جيدًا، لكن العيون موجودة، تراقبك من خلف الشاشات هذه المرة.

مع اقتنائنا أول هاتف ذكي لنا ومن ثم انتشار منصات التواصل الاجتماعي، بدا أننا وجدنا الملاذ الأخير. لا عيون حقيقية هذه المرة، بل متابعون مجهولون. ومع ذلك.. حملنا معنا آفات القرية ذاتها. صارت حياتنا العلنية تُمارَس في شكل جديد: لايڤ على إنستغرام، مقطع عابر على تيك توك، بلوج يومي يحكي تفاصيل شخصية جدًا.

كأننا نقلنا ساحة المقاهي والبيوت المفتوحة إلى شاشات صغيرة، نمارس فيها الثرثرة والفضول والفرجة، لكن دون أن نغادر غرفة النوم.

الطريف — وربما المؤلم — أن ما كنا نهرب منه هو ذاته ما نبحث عنه الآن.

فقدنا اليوم أبسط ما كان يمنحنا دفئًا وسط هذه الآفات: علاقتنا مع الجيران.

في القرية، كان الجار بابًا يُطرق عند الحاجة، أذنًا قريبة تسمع، أو حتى شخص يبادلنا الملح ومسحوق الغسيل عند الحاجة.

حتى في المدينة ظلّت بعض الخيوط موجودة، لكن مع الكومباوند صارت الأبواب مغلقة، والعلاقات تذوب في صمتٍ مهذّب. ولكن الآن استبدلنا جيراننا الحقيقيين بمتابعين عابرين: نتشارك معهم الصور والقصص والانفعالات، بينما من يسكن بجوارنا لا يعرف عنا شيئًا. صار ”المتابِع“ هو الجار الجديد، لكنه جار لا يعرف صوت طرق بابك، ولا ملامح وجهك حين تتعب. والأكيد أننا لن نطلب منه كبشة ملح.

كتب المفكر ميشيل فوكو عن فكرة المراقبة والمعاقبة (Discipline and Punish): أن الإنسان حين يشعر أنه مراقب باستمرار، يتبنى الرقابة داخله، ويُعيد إنتاجها بنفسه. وهذا بالضبط ما نفعله اليوم: لا نحتاج إلى غفير القرية ولا إلى عجوز تثرثر عن أخبار الجيران، نحن أنفسنا نمارس الدور، نُراقِب ونُراقَب، ونسلّم حياتنا اليومية طوعًا لمنصات صنعت اقتصادًا كاملًا من فضولنا.

لكن الفرق أن هذه المرة المراقبة ليست مجرد عيون بشرية، بل خوارزميات تعرفنا أكثر من أقاربنا. تُقرر لنا ما نرى، من نُتابع، ومتى نضحك أو نحزن. كأننا دخلنا إلى قرية أذكى، لكنها أكثر قسوة.

قال جان بودريار عن المحاكاة والفرط-واقع (Simulacra and Simulation): نحن لا نرى الواقع كما هو، بل صورًا تُحاكي الواقع حتى تبتلعه. حياة البلوجر مثلًا لم تعد ”حياة“، بل سيناريوهات مُمنتجة بعناية: إفطار مُصوّر، سفر مُمنتج، صور مفلترة.. ما نتابعه لم يعد الواقع، بل نسخة مصطنعة تفوق الواقع إغراءً وإثارة.

والغريب أن هذا كله يُعيد إنتاج ما كنا نشكو منه.. نحن لم نتخلص من الآفة، بل قمنا برقمنتها.

ومع كل ذلك، يبقى السؤال:

هل هربنا فعلًا؟ أم أننا فقط بدّلنا مقاعد المراقبة، من مصطبة القرية إلى ”التايملاين“؟

أشعر أن الحل ليس في الهروب ولا في التجميل، بل في إعادة بناء علاقتنا بذواتنا. أن نُعيد الاعتبار للحظات الإنسانية البسيطة: زيارة عابرة، مكالمة حقيقية، إعادة إحياء تبادل الصحون، أو حتى حديث قصير مع جارٍ نراه وجهًا لوجه.

أن نبحث عن معنى في الأفعال الصغيرة التي لا تحتاج إلى بث مباشر، ولا تنتظر إعجابًا من مجهول. كأن أعد فطورًا لذيذًا مع أمي دون أن أرفع الهاتف لمشاركة صورته مع الأعين الافتراضية أولًا قبل أن أشاركه مع عيني أمي.

ربما الحرية الحقيقية ليست أن نغادر القرية إلى المدينة، ولا أن نختبئ خلف أسوار الكومباوند، ولا حتى أن نعيش في عالم رقمي بلا حدود. الحرية الحقيقية أن نُدرك أننا لسنا في حاجة إلى جمهور دائم كي نصبح موجودين.

أن نجرّب أن نحيا لأنفسنا أولًا، لا للجمهور، لا للخوارزمية.

شارك هذا الـمقال