لا يصدق أصدقائي أن الروائي المفضل بالنسبة لي هو الأستاذ وليد، فني التحاليل الطبية في الوحدة الصحية التي أؤدي بها عملي الحكومي. ولهم عذرهم في ذلك.
عندما يسألني أحدهم السؤال المعتاد: من في رأيك يحكي أفضل القصص؟
فإنه ينتظر عادة أسماء أتحدث عنها بكثرة في كل مكان مثل محفوظ وأوستر وربيع جابر ومنصورة عز الدين وغيرهم.
لكنني أقول: ”الأستاذ وليد“. فني التحاليل الطبية. فتظهر على الوجوه دهشة. أو ربما توقع بأنني أبالغ أو ألقي نكتة.
أشرح ببساطة: لأنه لا يتقن فعل أي شيء في حياته سوى حكايات ”النميمة“ أو اختلاقها.
عرفت الأستاذ وليد منذ ثلاث سنوات تقريبًا عندما استلمت ”تكليفي“ في الوحدة الصحية. كنت لا أزال طبيبًا ”فرفورًا“ يتلمس كل الطرق الممكنة في الحياة.
عندما ذهبت بجواب استلام العمل رحب بي الزملاء من الأطباء والممرضات والفنيين، ورحبت بهم بدوري لكن مع بعض التحفظ حتى أستكشف الجو العام للعمل، وأعرف نوعية كل فرد منهم.
في اليوم التالي اخترق الأستاذ وليد صمتي، جاء إلى غرفتي بكوب شاي، وعزم بسيجارة، كان مصرًا بشدة أن أشاركه التدخين، لكنه أثنى عليّ في اللحظة نفسها عندما عرف أنني لا أدخن.
جلس قبالتي ثم بدأ يسترسل في أحاديث عشوائية، لا رابط بينها سوى أنه محور كل القصص. استمعت له بنصف اهتمام، ثم قررت رمي شبكة صيد في بحر حكاياته الهائج، سألته عن دفتر الحضور والانصراف، وكيفية إدارة الإجازات في الوحدة.
تلقف الرجل سؤالي بسعادة غامرة، ثم أدلى بدلوه عن كل أفراد الوحدة الصحية، صفاتهم، ومميزاتهم، وعيوبهم، وطريقة ”تسليك“ الأمور مع كل منهم. وأنهى كلامه بابتسامة شوهها التدخين وهو يقول: ”بس مش عايزين ننم على حد“.
طبعًا.
الهوس بإظهار المخفي
أحيانًا.. أعترف أنني أحب سماع النميمة.
اعترافي هذا يدهش أصدقائي مثل إجابتي على سؤال الروائي المفضل، ويضعني تحت ضغط شديد، داخلي وخارجي.
فمن ناحية يبدأ الأصدقاء في الحذر مني مخافة أن أكون سببًا في تناقل الكلام، ومن ناحية أخرى يؤنبني ضميري بمحبتي الفطرية لهذا الاستماع، خصوصًا مع الموقف الديني الصريح من النميمة واعتبارها أحد علامات النفاق الصريحة.
لم أجد فرصة للتوضيح..
حبي للنميمة يأتي من منبع بريء.
أستمتع بالحكايات العشوائية والمتشعبة، أو كما يقول سليمان فياض في مقدمة كتابه ”كتاب النميمة“، ليبرر لنفسه حكاياته عن زملائه أن:
”النميمة هي الكتابة وصوت الكتابة الخفي من الحركة، كما تعني الوشاية والكذب. وليس كل النم طعنًا في الظهر، فمن النم في اللغة هو إظهار الخفي“.
لم أكن يومًا مهتمًا بتتبع الناس في حياتهم الشخصية، ولا الطعن في الظهر، ولكني أحب الرغي والفضفضة ونسج الحكايات.
ما كان يدعوه أهل قريتي بالدارجة ”سهاري المصاطب“. كنت ولا زلت أحب فكرة ”السهاري“، أن ”نتساهر“، ونسهر سويًا، لا لأجل شيء سوى إرواء فضولنا للحكي والمؤانسة.
خد بالك كمان من التعبير العامي العبقري: ”نتساير“، والذي يشترك الجذر نفسه مع فعل السير. وكأننا نمشي معًا. نتسكع، نذهب في رحلة سريعة، نتغلب بها على الواقع الضيق.
هل تنتشر النميمة في المجتمعات الضيقة التي لا يجد أفرادها مهربًا منها؟ هاك مبحثًا على السريع في علم الاجتماع.
في صغري كنت أحب ”سهاري“ و”مسايرات“ جدتي بشدة. أجلس بالقرب منها وأرمي أذني. أسمع الأحاديث الدائرة حول حكايات القرية وأحداث أهلها، وما خفي بالطبع كان أعظم بكثير مما ظهر.
أعتقد أن جدتي عشقت ”السهاري“ هي الأخرى، فلم أرها تجلس وحيدة إلا فيما ندر، دومًا كان عندها صديقة أو أكثر يمررن الوقت بالأحاديث، وفي كل مكان، في الصالة، والمطبخ، وحوش الدار، والفراندا، وأمام الدار، وفي الغيط.
في مرة كانت تغسل محصول القمح وتنشره تجهيزًا لطحنه. كنت أساعدها في فرد ”الغلة“ المغسولة على مفارش من البلاستيك تحت شمس الصيف، وجاءت سيدة تدعى ”حميدة“ ساعدتنا في فرد الغلة.
ثم بدأت تجر الكلام مع جدتي وهي متوترة ولا تعرف كيف تصوغ ما يجول في خاطرها.
تقريبًا كانت حميدة تشك أن زوجة ابنها تخونه، سردت بصوت خفيض أنها دخلت حوش دارهم فجأة فرأت زوجة ابنها تنتفض من بين يدي أحد جيرانهم، الذي جاء لحمل بعض التبن من عندهم.
لكنها لم تكن متأكدة أكانت في حضنه أم لا. حاولت جدتي أن تستوثق منها ما رأت، لكن السيدة كانت موسوسة بفكرة خيانة زوجة ابنها، ومقهورة عليه أشد القهر، خاصة وأنه ابنها الوحيد.
في المساء جلست جدتي تدردش مع أمي وأعادت سرد القصة بطريقتها السينمائية، من كل زواياها، وأنا جالس بقربهما. في ذلك اليوم استمعت للقصة مرتين.
في اليوم التالي، في ملعب القرية، قررت حكيها لعدة أطفال في سني، وأعدت تكرارها أكثر من مرة في الأيام التالية.
لا أعرف السبب، رغبة في تقليد طريقة حكي جدتي، أم فرحة بوجودي في بؤرة اهتمام العيال الذين أشعلت دماغهم النميمة الجنسية بلا هوادة.
عن استعجال مهنة القص وإتقانها
شعرت لوقت طويل بالخجل من فعلتي تلك. وبعدما نشرت روايتي الأولى، والوحيدة حتى الآن، انضم إلى خجلي من الاعتراف بمحبة النميمة خجل جديد، وهو تعريف نفسي ككاتب.
هل الكتابة هي أي شيء غير نوع مهذب من النميمة؟
فور ما يعرف محدثي عن وجود كتاب لي وقصص منشورة يتعامل معي بأحد احتمالين: أن يتجنبني خوفًا من استخدام أحاديثه كمادة للكتابة، أو يسرد عليّ كل حياته رغبة في استخدامها كمادة للكتابة أيضًا.
أعتقد أن ”الأستاذ وليد“ من النوع الثاني، فور ما عرف أنني أكتب، حتى تعمقت جلساتنا سويًا، صار من ثوابت يومي الوظيفي، وبات يتعامل معي باعتباري كاتب تاريخه الشخصي.
تحفزت حواسه تجاهي وصار يحضر لي أطنانًا من النميمة، ثم يبدأ حديثه أو ينهيه كل مرة بجملة ”اسمع دي بقى عشان تكتبها في قصيدة من بتوعك“.
أصحح له أنني أكتب قصصًا وليست قصائد، فيعقب: ”مش مهم.. المهم تعرف تحبكها“.
الحكايات.. غرام للأبد
الأستاذ وليد قدّم لي نصيحة ذهبية. تستحق ورشة كتابة. عليك أن تحبك حبك أي قصة مهما كانت، إذا كنت تريد أن تكون كاتبًا. أو إذا أردت أن تكون أي شيء بصراحة.
لكنه لم يلتزم بتلك النصيحة في نمّاته.
تبدأ حكايات الأستاذ وليد بداية عادية. الزمان والمكان. ثم تجنح بعدها إلى بُعد فانتازي لا يمكن تصديقه سوى بصعوبة.
مرة يحكي عن خسارته لمزرعة دواجن بما يقارب ثلاثين ألف فرخ، وواقع حاله لا يوحي باستثمار كذلك.
مرة يقول إنه تجنب الفصل التعسفي من عمله لأنه أرشد وكيل الوزارة إلى نوع خارق من المنشطات الجنسية.
في أخرى يحكي عن اختطاف فتاة من الوادي الجديد لأنها خدعت صديقه، وبالطبع لا ينسى تتبيل قصصه بخوارق جنسية له وحده فقط، كأنه يعيش في عالم من المخصيين، وببعض الصراعات الفرعية حتى لا تنتبه للترقيع في الخط الرئيسي.
أحيانًا يعنّ لي أن أمارس معه لعبة القط والفأر، لأثبت له أنني أحلل ما أستمع له، مهما تظاهرت بالتصديق. أعطيه كتفًا قانونيًا من مغرم بالنميمة.
يتظاهر بإكمال القصة ثم يعرج على أشخاص نعرفهم، غالبًا زملاء لنا، ليقطع فروتهم فأُنبّهه إلى الحكاية الأصلية.
يعود إلى حكاياته المتشعبة، وينغمس في التأليف والتحوير، ولا يشعر بمرور الوقت حتى يأتي المدير ويعترض أننا لا نعمل، وإنما نرغي طول اليوم.
في الوحدة الصحية لا تشعرني ممارسة الطب بالثقة أو الكفاءة، فدائمًا هناك تعقيدات طبية وقانونية لا أستطيع التغلب عليها، لكن ممارسة الحكي مع الأستاذ وليد والمرضى من بعده تضفي على الجو العام لمسة هدوء وألفة، تتغلب على المرض وقلة الإمكانيات، وكأننا نتجاوز العجز بالحكايات.
لا أتذكر أنني رأيت الأستاذ وليد يبتسم بثقة خارقة سوى في المرة التي اكتشف أني سجلت إحدى حكاياته خلفه.
عندما حكى لي عن تقدمه لوظيفة شيف مشويات في أحد الفنادق السكندرية، وفي الاختبار أبهر لجنة التحكيم، ومن ضمنهم كانت طاهية سكندرية مشهورة. تركت له الطاهية رقم هاتفها، وبعد التواصل قرر أن يقابلها في بيتها بالعجمي.
ذهب واصطحب ابنه الأكبر ليثبت له أنه ما زال دون جوان، وفي العجمي كلما يمران ببيت أو شارع تخرج منه امرأة وتسلم عليه، فيسلم عليها بحرارة.
وقف على عتبة باب الطاهية وأخبر ابنه أن كل النساء اللاتي سلمن عليه هن زوجاته السابقات، ولكن عرفيًا. بالطبع فقد الفتى كل الكلام من انبهاره بحياة أبيه السرية، وراقبه وهو يرن جرس باب الطاهية، لكنها لم تفتح يومها.
عندما انتهى الأستاذ وليد من هذه ”التحويرة“، تركني ووقف على باب الوحدة، أشعل سيجارة وهو يراقبني.
كنت فتحت التابلت لأسجل الحكاية التي سردها علي، رغم إيماني التام بكذبها.
لم أقاوم فكرة الكتابة في لحظتها.
كنت أهرب من مهنة توترني إلى مهنة تحييني.