ماذا يفعل المرء حين تثقله المحبة؟ وحين يستقبل حبًا لا يريده من الأساس.
امتحانٌ قاسٍ.
أدرك أن تلك الفكرة في ذاتها امتياز، بل وربما تحمل بعض التفاخر. انظروا كم أنا محبوب، أقاسي المشاعر التي لا أريدها.
أعرف جيدًا أن التمرّد على الحب هو بذاته امتياز لا يدركه إلا من نجا الحاجة إليه.
لكنني في الحقيقة بدأت التفكير في هذه المسألة انطلاقًا من ملاحظة بسيطة: لا يوجد دليل.
كل الروايات العاطفية، كل النصائح في المجلات، كل نصائح الأمهات، كلها تتحدث عن الحب، لا أحد يتحدث عن تلقيه، وبالأخص حين يكون هذا الحب، وهذه المشاعر، غير مرغوب فيها.
كيف نرفض؟
أريد طريقةً عقلانيةً تخبرني ماذا أفعل بوصفي شخصًا يتلقّى الحبّ ويعجز عن مبادلته.
أبحث عن نموذج أخلاقي يساعد «المحبوب» على ألّا يصمت ويتجاهل فيقسو ولا يتعاطف فيزيف مشاعره.
كيف يمكن للإنسان أن يردّ المحبة؟
ربما لهذا قال رولان بارت إنّ: ”المحبوب بريءٌ فقط إذا بادل الحبّ، أمّا إذا صمت فقد صار شريكًا في الألم“.
تكبر كرة الثلج كلما دارت مشاعر الغضب. كلما رأيت تلك النظرة الممتنّة نحوي، أو وصلَتني رسالة طويلة تُعبّر عن مشاعر لا أملك الرد عليها، يختلط في داخلي الغضب بالشفقة، والذنب بالرفض.
أغضب لأن هذا الحب يُحمّلني مسؤولية لم أخترها؛ كأن وجودي نفسه صار عبئًا على قلب آخر.
the unrequited love أو الحبّ من طرف واحد.
في العادة يتوجه التعاطف كله إلى من يحبون ولا يتلقون المحبة. نتوجه إليهم بالشفقة والتعاطف. أمّا تجربة الطرف الآخر، (المحبوب)، فلم تنل نصيبها من الرومَنسة.
يُسمّي علم النفس ذلك عبءَ أن تكون محبوبًا (the burden of being loved).
تسمية غريبة بعض الشيء، في زمن يحلم فيه الجميع أن يكونوا موضعًا للمحبة، وفي علم النفس الاجتماعي يُوصف هذا الموقف بـ receiver’s guilt.
أي «ذنب المتلقي»، وهو الشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه عاطفة لا يستطيع المرء مبادلتها.
تشير أبحاث هيلين فيشر إلى أنّ الدماغ في هذه الحالة يُظهِر نشاطًا مشابهًا لما يحدث أثناء الشعور بالخطر لا باللذة. كأن الحب حين لا يُردّ يصبح تهديدًا للذات أكثر من كونه امتنانًا لها.
يتداخل الحنان مع الرفض، والرغبة في ألّا يُحرجوا مع الحاجة إلى الابتعاد.
أفكر في ذلك الشعور، وأتأمله على خلفية تجاربي الأخرى: أحب في نفسي صفة الكرم مثلًا. هذا المأزق يُشبه أن تكون بخيلًا عمدًا.
أعترف أنّ فكرة «الخشونة الوقائية» كضدّ للكرم النفسي والأخلاقي قد تُنقذني في مثل هذه الظروف.
التفكير المنطقي محاولة أخرى
أقول لنفسي إنّ الإنسان لا يختار مَن يُحب ولا مَن يُحبه، لكن الفلسفة لا تُعفي القلب من ارتباكه.
كتب مارسيل بروست مرةً أننا نخاف من حب لا نبادله، لأنه يُعرّينا أمام مرآة لا نريد أن ننظر فيها. نحب جميعًا دفء الاهتمام، لكننا لا نحب أن نُراقَب من خلال عيون لا نستطيع أن نحبها، وتُخيفنا فكرةُ أن نملك ما يشتهي الآخر.
وأعترف كذلك أني أتعاطف مع هذا الحب بالقدر الذي أغضب منه:
أتعاطف لأن في الحب من طرف واحد شجاعة تذكّرني بالكتّاب والشعراء الذين كتبوا للعالم ولم يتلقوا ردًا؛
وأغضب لأن العاطفة تتحول —من حيث لا تقصد— إلى سلاح يقيّدني بذنب لا أعرف كيف أزحزحه.
تعلّمتُ ببطء وبصبر، أن الحب غير المتبادَل لا يخصني وحدي، ولا يخص صاحبه وحده؛ إنما هو مساحة رمادية بين عالمين.
يحب الطرف الأول، لأن القلب لا يعمل وفق البرهان. وأنا أحاول ألّا أجرح، لأن العقل لا يعرف سوى الحذر.
ربما أتعلم من هذا شيئًا عن نفسي أيضًا: أن أكون حرّة في الرفض كما في القبول. وألّا أستحيَ من برودة الشعور كما لا أستحي من دفئه. العاطفة لا تُقاس بقدر ما يُتبادَل منها، بل بما تكشفه لنا من حدود إنسانيتنا.
ربما ليس المطلوب منا أن نعيد توزيع العاطفة بالعدل، بل أن نحافظ على المسافة النبيلة بيننا:
ألا نُسيء إلى الحب حين نرفضه، ولا نُسيء إلى أنفسنا حين لا نستطيع منحه، والمسافة النبيلة هي ببساطة اتخاذ موقف عملي تجاه نفسك والآخر،
وإعطاء دفة القيادة للصدق كشعور يجب أن يسيطر على الوضع الآن بعيدًا عن التعاطف والغضب والعواطف الأخرى، أن تعبر عن التقدير تجاه العاطفة وتعلن عن الرفض بلطف ثم الابتعاد بهدوء دون ترك أبواب مواربة.
أذكر نفسي دائمًا أن الحب من طرف واحد، في جوهره، تمرين على التواضع الوجودي، واختبار لشجاعة النفس ونُبل الفكر:
ألا أرى نفسي في موقع بطولي؛ لا كملاك محبوب، ولا كمتلاعب قاسٍ، بل كإنسانة تحاول أن تكون صادقة مع نفسها ومع قلب آخر في الوقت ذاته.
أخيرًا، أسمح لنفسي أن أختلف مع العزيزة سيمون دو بوفوار حين كتبت عن علاقتها بسارتر ولم تحتمل فكرة أن تكون موضوعًا للحب دون أن تكون مصدره أيضًا، وقالت: أن يُحبك أحد أكثر مما تُحبّه هو خلل في العدالة الوجدانية.
وأقول ردًا: العدالة الوجدانية ليست في مقدار العاطفة ولا في اتجاهها، بل في صدقها ذاته.
يكفيني الصدق من كل شيء.