حين تصبح الروابط الشخصية امتحانًا للنفس
الصداقة علاقة معقدة، وربما هي الشكل الأصعب من العلاقات. وفي زمن تتزايد فيه الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، لم يعد هذا الشكل من العلاقات مجرد مساحة للتسلية أو لتبادل الدعم العاطفي العابر.
الذنب كمحرّك خفي
كثيرًا ما يظهر الذنب في تفاصيل صغيرة: مكالمة لم تُرَدّ عليها، لقاء أُجِّل أكثر من مرة، كلمة جارحة تُقال بلا قصد ثم تبقى عالقة في الذاكرة. أحيانًا لا يأتي الذنب من خطأ فعلي، بل من شعور مزمن بعدم الكفاية: ”هل كنتُ كافية لصديقتي؟ هل بذلت ما يكفي من جهد؟ هل سأُترَك؟“ في علاقات غير متكافئة عاطفيًا، يتضخم هذا الإحساس أكثر، وكأن أحد الأطراف مُلزَم بدور ”الأم“ أو ”الراعي“، يحمل عبء الجماعة في صمت.
اللافت أن هذا الدور لا يُفرَض بالضرورة من الخارج، بل قد ينبع من الداخل، من التربية أو من التوقعات الاجتماعية المرسومة خصوصًا للنساء، حيث تُربط قيمتهن بقدرة لا تنتهي على العطاء والاحتواء. ومع ذلك، تبقى هناك دوائر صداقات أخرى أكثر توازنًا، يستطيع الفرد فيها أن يتنفس على طبيعته بلا خوف من التأنيب أو من فقدان المكان.
الخوف من الهجر والبدائل السائلة
يتقاطع الذنب مع خوف آخر لا يقل وطأة: الخوف من فقدان العلاقات في زمن ”السيولة“، حيث كل شيء قابل للاستبدال: الوظائف، الأفكار، وحتى الأصدقاء. صار من الطبيعي أن يبدأ كثيرون صداقاتهم بسؤال صامت: ”متى ستنتهي هذه العلاقة؟“ بدلًا من أن يكون السؤال: ”كيف ستستمر؟“
هذا السؤال في جوهره ”سؤال فاسد“، لأنه يحوّل الآخر منذ البداية إلى علاقة بمدة صلاحية محدودة. هنا نستعيد فكر إيمانويل ليفيناس، الذي يرى أن ”وجه الآخر“ ليس مجرد ملامح نشاهدها، بل دعوة أخلاقية لا يمكن التنصل منها. وجود الصديق أمامي يفرض عليّ مسؤولية استمرارية، اعتراف، ورغبة في البقاء. حين نبدأ العلاقة بسؤال عن نهايتها، فنحن نغلق هذه المسؤولية قبل أن تولد، ونحوّل الصداقة إلى سلعة قابلة للتبديل.
في المقابل، يُظهر مارتن هايدغر أن الإنسان ليس كائنًا فرديًا في جوهره، بل هو منذ البداية ”كائن-مع“، أي أن وجودنا نفسه مشروط بالآخرين: اللغة، الفهم، العالم المشترك، كلها لا تُبنى إلا من خلال شبكة العلاقات الإنسانية. الانسحاب إلى ”قوقعة الذات“ أو قطع العلاقات بسهولة، كما يُروّج في شعارات تقدير الذات السريعة على ريلز وتيك توك (اقطع، انسحب، لا تبرر) ليس مجرد خيار فردي بل هو تمرد على طبيعتنا الوجودية.
الرأسمالية، بتسليعها للعلاج النفسي، تشجع هذه الفردانية المنعزلة: كل فرد وحيد في قمّة زائفة من ”الاكتمال“، محروم من شبكات الصداقة والتضامن التي تُعطي لحياته معنى. حتى الأغاني الشعبية، التي طالما كانت مرآة لوجدان الجماعة، تغيّر خطابها. من تمجيد ”الصاحب السند“والبكاء على ”الصاحب اللي باع“، انتقلنا إلى لغة أكثر برودًا وسرعة. في أغنية ”حالق مولت“ يقول كريم كرستيانو:
”ده ما فيش ولاء ولا في انتماء، كل الصحاب سِكّة، تدي الأمان، هيدوك يابا بالباقي لبان، إوعاك تآمن مهما كان، الناس دي مش سالكة.“
هذا الخطاب يختصر روح ”السيولة“: الناس مجرد مسارات عابرة، الثقة خطأ ساذج، والصداقة زائلة بطبعها. لكن الحقيقة أن الإنسان لا يُبنى إلا داخل علاقات ممتدة، فيها التوتر والخذلان، لكن أيضًا فيها المعنى والذاكرة المشتركة. بين وهم العزلة المريحة وعبء الصداقة الثقيلة، يظلّ الطريق الأصيل هو إدراك أننا لا نكون ”أنا“ إلا من خلال ”نحن“.
الصداقة كعلاقة مقاومة
من المهم النظر إلى الصداقة، خصوصًا بين النساء، كمساحة مقاومة للأنماط الاجتماعية. في ظل تصاعد العزلة الحضرية، تتحول صداقات النساء إلى دوائر شفاء ودعم مادي ومعنوي؛ من ”الجمعيات“ الصغيرة، إلى جلسات النقاش المفتوحة، وحتى القعدة اليومية على ”المصطبة“. هذه الروابط، مهما بدت هامشية، تصنع بنى تضامنية قادرة على مداواة العطب ومواجهة الوحدة.
ومع ذلك، تتعرض الصداقات النسائية لشيطنة ممنهجة: تُصوَّر كعلاقات ”محرضة على التمرد“ مبنية على الكراهية أو الغيرة. ممارسة شائعة أن يحاول الرجل عزل شريكته عن صديقاتها بحجة أنهن سيُفسدن ”البيت“.
حين أقول إن الصداقة النسائية قد تأخذ شكل ”طقس جماعي“ أو “cult”، فأنا أقصد القدرة على تحويل الألم الفردي إلى خبرة مشتركة تُحتوى وتُعاد تسميتها. فيلم Midsommar (آري أستر) مثال حاد: على السطح “كوميون/طائفة” غريبة، لكن تحت الجلد هو فيلم يحاكي خفايا الـ”break up” بامتياز. داني لا تحتاج ”سحرًا“؛ تحتاج أن يُصدَّق ألمها بعد فاجعة عائلية وعلاقة مُنهِكة مع شريك بارد ومتواطئ في إسكاتها.
الصرخة المشتركة في مشهد احتضان نساء الكوميون لداني وصرخاتهن المتزامنة تظهر كشعوذة؛ لكنها تنظيم مشترك للانفعال — جسد جماعي يعمل كمرآة تعاطفية. الألم يُوزَّع على مجموعة، فيخفّ حمله ويُعاد تأطيره. بينما يطالبها شريكها بالهدوء والتعقل، يمنحها الجسد الجماعي إذنًا بالصراخ والبكاء والاهتزاز — لغة تعترف بالمحنة بدل تلطيفها.
تتوج داني ملكةً للربيع (May Queen) فتكتسب لأول مرة مجتمعًا يصدق تجربتها. اختيارها النهائي الذي يتمثل في شكل ”طقس تضحية“ هو قطع رمزي مع علاقة مسيئة. ابتسامتها الأخيرة تُقرأ كتحرر من غازلايتنغ طويل، أكثر مما تُقرأ كانتصار للسحر.
هذه القراءة تُفيدنا لأن ما يبدو ”طائفة“ في الفيلم هو، في جوهره، تقنيات اجتماعية لصناعة الانتماء: تنفُّس متزامن، عناق جماعي، إعادة تسمية للوجع. الفارق الأخلاقي أن الكوميون يطلب ثمنًا باهظًا (الطاعة/الذوبان) بينما يمكن لصداقات النساء أن تُنتج التحقق ذاته — التصديق، تقاسم الألم، تحرير الغضب — من غير ابتلاع الفرد. أي أن ما يُخيف السلطة من ”دوائر النساء“ ليس السحر، بل فاعلية التضامن.
تلمّح حنة أرندت إلى أن الفعل السياسي يبدأ حين نتكلم معًا ونظهر معًا؛ الصداقة هنا نواة فضاء عمومي بديل يُقاوم العزلة المفروضة. فتظهر لنا كيف تكون الصداقة النسائية ليست مجرد ”هوامش“ الحياة، بل بنيتها التحتية حين تضيق المساحات: شبكة بقاء ومختبر لسياسات العيش سويًا.
نحو إعادة تعريف الذنب
الذنب في الصداقة ليس بالضرورة شعورًا سلبيًا. أحيانًا يكون بوصلة أخلاقية تُذكّرنا بالمسؤولية تجاه من نحب. لكن حين يتحول إلى معيار نقيس به قيمتنا الذاتية، يصبح عبئًا خانقًا. ما تحتاجه الصداقة ليس إلغاء الذنب، بل الوعي به، وفك شيفرته: هل هو نابع من قصور حقيقي، أم من توقعات غير عادلة؟
في النهاية، الصداقة ليست امتحانًا دائمًا، وليست ساحة للوم أو للمقارنات. هي علاقة تُبنى وتُرمَّم باستمرار، مثل بيت صغير يُعاد طلاؤه وترميمه كلما تصدّع جدار. لعلّ القوة الحقيقية في الصداقة ليست في خلوّها من الذنب، بل في القدرة على تحويل الذنب إلى معرفة أعمق بالذات، وبالآخرين الذين نختار أن نشاركهم الطريق.