أتذكر هذا اليوم جيدًا منذ ثلاثة أعوام.
كان هذا في صباح اليوم الذي سبق دخول محمد في الغيبوبة.
استيقظ بكل نشاط (النشاط في حالته كان مجرد ابتسامة أمل وشعور يشاركه مع كل من في غرفته بأن هناك المزيد لفعله، ما زال هناك أمل).
كان يجهز نفسه للذهاب لطبيب الأسنان.
حجز محمد هذا الموعد الوقائي قبل شهرين من دخوله للمستشفى للمرة الأخيرة. حاول كل الأطباء إثناءه عن الذهاب، فحالته لم تعد تقوى على أي تدخل طبي من أي نوع حتى لو كان في أسنانه.
في محاولتي للنقاش معه عن جدوى الذهاب من عدمه لهذا المشوار، سألته: هل تشعر بألم في أسنانك يا محمد؟
قال: لا، ولكن هناك ألم طفيف للغاية أريد أن أتفاداه قبل أن يتفاقم.
أيقنت أنها مجرد حيلة أخيرة لعدم الاستسلام للموت.
كان قد انتهى من كتابة آخر فصول كتابه (أنا قادم أيها الضوء) قبل أيام قليلة، وبمجرد لحظة انتهائه من الكتابة رأيت في عينيه شعور الخيبة والخوف من أن المعجزة لم تحدث.
كان موعد طبيب الأسنان بمثابة آخر أمل له، بأنه ما زال هناك شيء ما عليه فعله.
حين رأيت تلك النظرة استجبت فورًا له وقلت: هيا بنا إذن للذهاب لهذا الموعد الهام، وبمساعدتي أنا وأخيه تمكّنا من النزول من المستشفى وركوب السيارة.
أقود ومحمد بجانبي بينما كانت الشمس ساطعة ودافئة على غير العادة في أول أيام ديسمبر بلندن.
أوراق الشجر جميلة، ما زالت خضراء ولم تسقط بعد.
نظرنا لبعض بكل امتنان كعادتنا عندما نرى شيئًا جميلًا، وكان على وجهه ابتسامة رضا هادئة. طلب أن يسمع منير، تحديدًا شريط ”من أول لمسة“. أعدنا أغنية ”قلبك على قلبي“ مرتين.
لحظات كنت أتمنى أن يقف عندها الزمن للأبد، وابتسامة ما زالت محفورة أمام عيني.
وأنا أكتب الآن تعود لذاكرتي باقي القصة، بعد أن تناسيتها، التي لم تنتهِ بنهاية سعيدة للأسف.
فعندما رأى طبيب الأسنان محمد ظهرت على وجهه نظرات فزع من حالته.
طلبت التحدث إليه على انفراد، وانفجرت في البكاء لحظة غلق الباب وقلت للطبيب الشاب:
أرجوك، أتوسل إليك، افعل له ما يريد. مثّل أنك تتفحص أسنانه، قل له أي شيء وخذه على محمل الجدية، هو فقط يريد بضع لحظات أخيرة من الأمل.
بالطبع لم يستجب الطبيب، رغم أنه أظهر لنا بالغ تعاطفه، ولم يُجرِ أي فحص، لكنه تقدّم بعرض أن يأتي للمستشفى ليُجري هذا الفحص بعد موافقة مكتوبة من طبيب محمد المختص بحالته.
عدنا أدراجنا إلى السيارة، نظرت لمحمد، كانت الابتسامة قد اختفت وحلّ محلها نظرة استسلام وخواء.
حاولت الحديث معه، وتشتيت انتباهه عن هذا الشعور.
اقترحت أن نذهب في زيارة سريعة للبيت لرؤية الزرع الذي ربّاه وكبِر، لم يستجب لي.
كان ينظر للفراغ وطلب إطفاء الراديو.
في تلك اللحظة تحديدًا شعرت به.
كان شبح الموت قد سبقنا إلى المستشفى.
”ويا ميلي تميلي، مدي إيدك طولي تاني، وقولي للأيام“
الآن، في ذكرى وفاته الثالثة، أحب أن أتذكر الجزء السعيد من القصة؛
لحظة الابتسامة الهادئة في يوم عادي، بعيدًا عن كل الألم والوجع الذي تلاها.
أجد أن عقلي مع الوقت ينسى كل ذكرى حزينة ويتذكر كل لحظات الحب والجمال، وهذا ما يجعل الموتى أقرب للملائكة في نظر أحبابهم.
في بداية أيام الفقد لم أكن أحب تلك الحيلة.
أرغمت عقلي على تذكر لحظات في غاية العادية، وفي تذكر خصال محمد التي لم أكن أحبها.
أردت تدريب عقلي على أنه لم يكن كاملًا، وأنا لم أكن كاملة، وأننا أحببنا بعضنا وعشنا حياة سعيدة عادية معًا.
أحكي لابننا حكايات سعيدة وحكايات عادية، وأحكي له لحظات غضبي من والده بسبب ما.
أزعم أن تلك الحيلة هي ما جعلتني ما أنا عليه الآن.
أردت المضي قدمًا ومحاولة التأكيد لنفسي ولابني أن الحياة لم تنتهِ بعد، وأن هناك ما يجب علينا فعله ولو كان مجرد أمل خادع.
أما الآن، فأصبحت أتذكر كل ذكرياتي السعيدة معه، أتذكر خصاله النبيلة، أبكي عليها أحيانًا عندما أمرّ بأزمة لا أعرف لها حلًا فوريًا، ثم أشعر بالامتنان سريعًا لأن ما حدث علّمني أن أؤمن بنفسي وبقدراتي.
أشعر بالحنين له دائمًا لمعرفتي كم كان سيكون فخورًا بابنه وبي، لمجرد محاولتنا الدائمة مواجهة الحياة.
وأخيرًا أشعر بالأمل فيما هو قادم، وعلى وجهي ابتسامة رضا.
ابتسامة شبيهة بابتسامة محمد الهادئة في يوم مشمس من أول أيام ديسمبر ٢٠٢٢.