الرابعة صباحًا
٤٨٥ كلمة

كان مالها الجوابات بس!

تخبرني رفيقتي أنني لا أحب المواجهة، وأرد عليها مدافعًا عن نفسي أنها ليست مسألة حب أو كره، إنما هي تفضيلات، وأنا… لا أفضل المواجهة. أحيانًا لا أجيد الحديث إلا عبر رسائل مكتوبة، كانت الكتابة مهربي في أوقات عدة في حياتي، ملاذًا آمنًا أعبر فيه عن كل ما يجول بخاطري دون خوف من ردة فعل مفاجئة قد تزعجني إذا قلت الكلام نفسه منطوقًا.

أحسب أنني قد طورت عادة كتابة الخطابات تلك مؤخرًا، لطالما كانت كتاباتي مجرد خواطر متفرقة غير موجهة إلى أحد، لكنني آنست ألفة في مخاطبة شخص آخر، شعورًا بالمشاركة والحميمية. حين أقرأ كتابة أحدهم أشعر أنني أعرفه، كأنه صديقي المقرب، أو عدوي اللدود، وربما هو مجرد شخص آخر لا يجب أن يراودني شعور نحوه.

توفي أبي وأنا لم أكمل عامي الثاني. أدى هذا بالتبعية أننا — أنا وإخوتي — صرنا أبناءً للعائلة، أعمامنا لأبي، وخالنا الوحيد. لكن علاقتنا بخالي كانت هي الأقرب (وقتها على الأقل، أو لنقل لم تعد كذلك). سافر خالي للعمل في المملكة العربية السعودية، وحرص هو وأمي أن يراسل كلٌّ منهما الآخر كل أسبوع أو عشرة أيام.

كنت أترقب خطابات خالي الواحد تلو الآخر، وأنتظر أن تأتي الفقرة التي يذكرني فيها بالاسم ليسلّم عليّ، فأقفز فرحًا.

أحيانًا كنت أطمح أن يذكرني قبل إخوتي، لكن هذا لم يحدث أبدًا، كان حريصًا جدًا أن يذكرنا بترتيب الميلاد: هبة، فأحمد، ثم أنا. لاحقًا، سافرت ابنة عمي منى مع زوجها، وكانت ترسل الخطابات أيضًا، ليس بكثافة خطابات خالي بالطبع، لكنها برعت في اختيار كروت المعايدة والتهنئة في كل مناسبة. حتى يومنا هذا، أزعم أن منى كانت الأقرب إلينا من كل العائلة الممتدة.

حين كبرت وسافرت، كانت أمي قد رحلت بالفعل، وتزوج إخوتي، بل إن أبناء أختي صاروا يناطحونني الطول، وصار هناك هاتف وإيميل وسوشيال ميديا، فلم تعد الخطابات مجدية، لكنني لم أجد أبدًا فرحة كفرحة قفزتي طفلًا حين أستلم خطابًا من خالي أو من ابنة عمي. لذا، أظنني ارتأيت أن الوسيلة الأفضل لمعرفتي هي أن أكتب خطابات مثل هذا، علها تختصر زمنًا، وتقرّب المسافات، وتجنبني المواجهة.
win-win situation كما يقال.

وهو انت خايف من ردة الفعل؟ ولا من مشاعرك تجاه ردة الفعل؟ ما عادي يعني؟ محنا بني آدمين، ما نغلط، إيه المشكلة!“ قاطعتني بعد واحد من نقاشات طويلة. وقتها رأيت الأمر من زاوية مختلفة.

الأمر ليس أنني ”لا أفضل“ المواجهة، أنا ”لا أستطيع“ المواجهة. لا علاقة لهذا الأمر بالآخرين، أنا لا أستطيع أن أواجه نفسي. الخطابات التي أحبها هي في غالبها وسيلة دفاعية تجنبني الاعتراف بضعفي، أو كوني السيئ في رواية أحدهم!

الكتابة هي أثر جيد بالطبع، لكنها أبدًا لا تُغني عن حديث مباشر نواجه فيه أنفسنا قبل الآخرين. نحتاج لأن نقبل أنفسنا ونفهمها قبل أن نتوقع من الآخرين هذا الشيء، وهذا يتضمن القبول ببشريتنا، وأن نفهم ضعفنا، ونرى أنانيتنا، ونقوّم خطأنا. وقبل كل هذا، أن نرى الآخرين أيضًا، والحكيم من استطاع الموازنة دون أن يكون نرجسيًا أو people pleaser.

نعود للقصة، في خطاباته كان خالي يبدأ دائمًا بسؤال أمي: ”كيف حالك يا صفاء؟“ كانت كتوقيع مميز يأتي في بداية كل رسالة…

تبًا، أنستني الكتابة أن أسألك:
كيف حالك؟

شارك هذا الـمقال