(1)
تسعينيات القرن الماضي.. وبينما تنهال القذائف الصربية على أحياء العاصمة البوسنية سراييفو وقف علي عزت بيجوفيتش أمام أحد المباني ينتظر دخول الناس حتى يطمئن على سلامتهم، فسألته سيدة من المارة.
– أنت الرئيس أليس كذلك؟
= نعم
– ألا تشعر بالخوف؟
= سيدتي أنا ارتعد خوفًا لكنني الرئيس يجب علي أن أكون بينكم طوال الوقت ولا أظهر خوفي!
جملة بقدر ما تحمل من إنسانية بقدر ما دفعتني إلى سؤال غريب:
أيجب على المرء أن يظهر خوفه في كل مرة يشعر به؟ أيستوجب أن يكون كل منا رئيسًا للجمهورية في وقت الحرب حتى يخفي خوفه!
(2)
قبل أسبوعين من الموعد المحدد للولادة، وداخل أحد الممرات الواسعة لمشفى حكومي متخصص في قلب القاهرة، وبطلب من الطبيبة المعالجة، وقفت رفقة زوجتي في انتظار دخول غرفة الحالات الحرجة، زيارة لا غرض منها سوى الاستفسار عن خطورة الضغط المرتفع وحسب.
جاءتنا ممرضة متأففة تضج ملامحها بالشرر، وتحمل في يدها جهاز قياس ضغط رقمي في حالة مهترئة، تضع اللفافة حول ذراعها ويبدأ الجهاز بالعمل، تتجاهل كل نداءات زوجتي بأن الجهاز حالته غير طبيعية ويبدو أنه لا يعمل بشكل جيد، يبدو وأن الممرضة لم تكن ترانا بالأساس.
-”إلحقنا يا دكتور الضغط 180 لازم تدخل طوارئ فورًا وتولد النهارده“.
تحول الأمر في دقائق إلى وضع كارثي لم أستطع أن أسيطر خلاله على نوبات الخوف والقلق التي ضربت جسدي بالكامل في ذلك الوقت، رغم الشكوك في صحة القياس بالأساس.
الشاب الذي دخل الثلاثينيات لتوه، وقضى ثلثي عمره بعيدًا عن المواجهات الخطرة والمنحدرات وزيارات المستشفيات الطارئة. يقف وحده في قلب الحالة الطارئة نفسها وعليه التصرف بحكمة.
لا مفر هنا من إخفاء نوبة القلق وضيق التنفس التي ترج جسدي بأكمله وتهدئة نوبة السعال الحاد الناتجة عن القولون العصبي وارتجاع المريء معًا.
(3)
قادني موظفو المشفى بين الطرقات، ومن واحدة لأخرى ومن عملة نقدية لأخرى حتى تصبح الحياة أسهل، وصلنا إلى الممر الاقتصادي.
اليوم وبعد شهور طويلة أتذكر ذلك اليوم وأسأل نفسي كيف تنزلت علي رحمات الله في ذلك اليوم فظهرت قويًا هادئًا لست على وشك السقوط أرضًا أو الاستسلام لنوبة حادة من السعال وضيق التنفس ولم تشعر زوجتي ولم يشعر الباقون حين حضروا أنني أصارع بركانًا انفجر لتوه داخلي.
مرت الساعات وهدئت الأمور وتبين أن القياسات خاطئة وانتهت حالة الطوارئ لكن ذلك الشاب الذي اقترب من الأبوة بخطوات عرف ما كان يعنيه بيجوفيتش رغم اختلاف السياقات، أنت المسؤول الأول ولن يكون من المناسب أن تسقط أرضًا أو تظهر خوفك، هكذا يجب أن يكون الدور لأن هناك من يعتمد عليك.
انتهى اليوم وسقطت صخرة سيزيفيوس إلى القاع ولم يكن هناك حاجة للعودة لحملها من جديد، وصار بالإمكان أخذ نفس عميق حتى حين.
(4)
نصف ساعة أمام غرفة العمليات، صخرة سيزيفيوس عادت إلى قمة الجبل من جديد، يجب أن يكون الهدوء سيد الموقف حتى وإن كانت المخاوف كلها مشتعلة بالداخل.
خرج بعدها ممرض يحمل بين يديه طفلة صغيرة ملفوفة في قماش أزرق ويغطيها لون أبيض كثيف. ارتعشت يداي وعرفت كيف تكون رعشة اليدين وخروج الدموع دون إرادة، لم أستطع حملها ولم تسعفني أعصابي، اكتفيت بترديد الأذان في أذنيها.
سقطت صخرة سيزيفيوس للمرة الثانية وحُمل مكانها طفلة في غاية الوداعة والرقة.
صار الشاب الثلاثيني المحاط بأحاديث فيسبوك عن أن جيله مازالوا صغارًا ومتى كبروا ومتى مرت السنوات بهذه السرعة، وكيف يعقل أن تكون التسعينيات منذ ثلاثين عامًا ونيف.
أصبح الشاب أبًا وعليه أن يعرف أن الحياة منذ الآن قد تغيرت تمامًا حتى وإن كان القلب يرتجف من وقت لآخر.
(5)
كتب جوزيف روتمان في مقدمة كتابه Algebra Topology إهداءً طريفًا لعائلته قائلاً ”إلى زوجتي مارجنيت وأطفالي إيلا روز ودانيل آدم الذين لولاهما لأنهيت هذا الكتاب قبل عامين“.
وبقدر ما كان حديث جوزيف طريفًا بقدر ما يخبرك هذا عن تغير الحياة بعد الأبوة، فالإنجازات العلمية والمهنية، بقدر ما تكون مشبعة ومرضية إلا إنها تفقد قيمتها تدريجيًا أمام أمورٍ أخرى أكثر أهمية إذا تعلق الأمر بأب يجيد تقديم الحب.
ذكرت دراسات عدة أن كيمياء المخ تتغير عند الرجال في الشهور الأولى لاستقبالهم مولودًا، المادة الرمادية تتغير وتتغير معها عدة جوانب عاطفية ونفسية.
هذا النوع من التغيرات لا يمكن التحكم به ولا معرفة كيف يحدث، بل يحدث وحسب دون أن تدري، وربما بعدها يتغير خفقان قلبك نحو الأفضل، وبدلاً من الخوف والحيرة، يجد القلب طريقه للخفقان بسعادة لأجل ابتسامة هادئة يرى فيها المستقبل، فالخوف وارتجاف القلب وإن طال زمانهم زائلون، أما الحب فهو قادر على أن يبقى حيًا.
أو كما قال نجيب محفوظ..
”ما أسعد من لا يضيع خفقان قلبه في العدم“.