الرابعة صباحًا
٣٩٢ كلمة

الجسد يعرف

كنت أنام لسنوات بجانب رجل لم أستطع يومًا أن أستسلم للنوم بجانبه. لم أفهم وقتها لماذا يظلّ جسدي يقظًا، ولماذا لا يكتمل نومي. بعد حين، عرفت الحقيقة: كان يخون، يكذب، ويتقن الخداع. ساعتها فقط فهمت، جسدي عرف قبلي.

تلك كانت أول مرة أدرك فيها أن الجسد ليس وعاءً فحسب، بل شاهد صادق. هو من يفضح التوتر الذي لا نقوله، والرغبة التي خُنقت، والخيانة التي لم نعترف بها.

الجسد يحكي

أحيانًا لا نحتاج إلى لغة، يكفي أن نصغي. ذلك الشدّ في العنق حين يزداد الضغط، الاختناق الذي يرافق نوبة هلع، والخفقان الذي ينبّهنا قبل أن ينهار الداخل.

حتى في الحب، يشعر إن كان اللمس صدقًا أم محاولة نسيان. قد يهدأ بعد اللقاء أو يثقل، كأنه يهمس لنا بأن القرب بلا روح لا يواسي، بل يُتعب.

الجسد لا ينسى

كثير من أمراضنا ليست مصادفة. الأرق، الالتهابات، وثِقَل الجسد بلا سبب، رسائل مؤجّلة تنتظر الإصغاء. فحين تعجز الكلمات، يتكلّم الجسد، وحين نُسكِته طويلًا، لا يجد سوى الألم ليُسمِعنا صوته.

نعيش كثيرًا في رؤوسنا، نُحلّل ونفسّر، ننسى أن الجسد هو من يعيش فعلًا. هو الوعاء، الشاهد، والمكان الذي تسكنه الحياة. لمسة واحدة قادرة أن تُعيدنا إليه، أن تُذكّرنا بأن الشفاء لا يمرّ عبر الفكر، بل عبر ما نشعر به.

مرآة العقل الصامتة

الجسد مرآة صادقة أكثر من العقل. يحمل أثر لقاء واحد لأيام طويلة، ويُبقي اللمس محفورًا على الجلد حتى بعد أن يرحل صاحبه. كأن الجسد لم يفرّق بعد بين الغائب والحاضر.

لكن، هل نصغي إليه حقًا؟ غالبًا ما نخون أجسادنا كما نخون قلوبنا، نتجاهل العلامات، نُسكِتها بالانشغال، ونحسب الصمت شفاءً.

وأنا تعلّمت الإصغاء

جربتُ لسنوات العلاج الكلاسيكي: الكلام، التحليل، الحفر في الطفولة. كان يُخفّف شيئًا، لكنه لم يلمس الألم الذي يسكنني في العمق. حتى اكتشفت أن الجسد يحتاج إلى علاج أيضًا، وأن التدليك ليس رفاهية، بل شكل من العلاج، لغة ثانية تُترجم ما لا أقدر على قوله.

كنت أستلقي على الطاولة، أترك اليدين تضغطان على عقدتي الصامتة، فأشعر وكأن ذاكرتي تنحلّ مع كل عضلة. أحيانًا أبكي بلا سبب، وأحيانًا أضحك، كأن الجسد يروي لي قصصًا خبّأها عني لسنوات.

ولعل أقساها ما كشفه لي عن الحب. منذها، صار الإصغاء إلى الجسد طقسي الجديد. كل جلسة تدليك، كل نفس عميق، كل لحظة أضع فيها يدي على صدري وأقول لنفسي: ”أنا بخير“، صارت طريقًا نحو الشفاء.

ليس العلاج بالكلام وحده، ولا باللمس وحده، بل بالجمع بينهما: أن نحكي الألم بينما تُحرّر اليد ما خزّنه الصمت.

الجسد يتذكّر، لكنه أيضًا، حين نصغي، يعرف كيف ينسى.



شارك هذا الـمقال