تربيت في بيت لم يكن الحضن فيه عادة راسخة.
لذلك، في رأيي الآن سببان:
أن الصورة العامة عن هذا الفعل الحميمي هي اللّين، وهي باب خفي للخطر كما نعرف جميعًا، لا يُستحسن فتحه كثيرًا. الاعتياد عليه قد يورث الضعف، ويفسد الصلابة، وفي هذا العالم القاسي قد تكون النتيجة أن أجيالًا تنشأ بعيدًا عن توقعات الأهل.
أما الثاني، فهو أن الأهل لم يعتادوا على تلقيه أيضًا، لذا يصبح حضوره أمرًا نادرًا ضمن أساليب التعبير. فاقد الشيء لا يعطيه، وربما في هذه الحالة لا يعرف أهميته أصلًا.
كيمياء الطمأنينة.. دواء أبسط مما نظن
في علم النفس، تصف الأخصائية النفسية فرجينيا ساتير أهمية الأحضان قائلة: «إننا يوميًا بحاجة لأربعة أحضانٍ لنعيش، ولثمانية لنعالج أنفسنا، ولإثني عشر لننمو ونتطور». تؤكد ذلك الأبحاث العلمية بوجود ما يسمى «التوق الجسدي» (Skin Hunger)، وكلها تتحدث عن كيف يخفف الحضن، ذلك الفعل الذي لا يفسره العقل بقدر ما تعيه الروح، توتر الكورتيزول ويمنحنا عبر الأوكسيتوسين ما يشبه ضوءًا داخليًا من السكينة والأمان.
للحضن أثر أبعد من لحظته؛ تُظهر أبحاث أخرى أنه لا يقتصر على تهدئة الكورتيزول فحسب، بل يمتد أثره إلى الجهاز العصبي بأكمله، فيبطئ إيقاعه المضطرب ويعيد للجسد تناغمه الطبيعي، فينعكس ذلك على المزاج في صورة صفاء وطمأنينة، وعلى العلاقات كنواة ثقة تنمو بهدوء وديمومة.
جدران البيت، وجسور المقاهي
في الطرقات والمقاهي والجامعات، يحضن الأصدقاء بعضهم عادةً، ليبدو لنا ببساطته وكأنه شيء بديهي؛ الأجساد تعرف طريقها إلى الأشياء الجيدة. وفي العلاقات الحديثة، يظهر الحضن كشيءٍ سحري، تلين الحواجز بحضوره، وتتآلف الأمور. أحيانًا، كضوءٍ أخضر يظهر ليعلن اجتياز العلاقة أولى عتبات القرب، فاللقاء المقبل حتمًا سيبدأ وينتهي بحضن، وهكذا تولد الصداقات وتتوطد.
قد يبدو الأمر مفارقة؛ أن يكون الحضن بين الأصدقاء أيسر منه بين أفراد العائلة، لكنه في الحقيقة ليس غريبًا. عند الأهل، يثقل الموقف تاريخ طويل من الصمت، ومن عادات لم تعرف هذه اللغة في الأصل. ولأنه هنا أيضًا لا يكون الحضن مجرد فعل جسدي، بل يحمل معه اعترافًا، حبًا غير معلن، وكسرًا لحواجز قديمة، مما يجعل اللحظة أعمق وأثقل.
في عالم الأصدقاء، يحضر الحضن بخفة، كعادة وُلدت من رغبة مشتركة، لا تاريخ من الحرمان يثقلها ولا جدار ينبغي كسره. المساحة هنا مختارة، والذاكرة الجسدية أنظف، فيظهر بينهم كامتداد طبيعي، لا كإعلان متأخر.
فلماذا تُغفل بين الناس، أو في البيوت بالأخص، هذه اللغة البسيطة؟ ولماذا تُرى أحيانًا كشرٍّ خفي، لا كلغة حب ودعم وجسر نعبر به إلى الآخر؟
ماذا إن عادوا؟
أفكر أحيانًا، ماذا إن وعى الأهل، أخيرًا ولأي سبب، أهمية ذلك؟ أو إن أصبحوا هم من بحاجة إليه؟ أتستجيب أجسادنا بسهولة؟ ماذا لو أعلنت الأم، التي أصبحت امرأة عجوزًا، بطريقة أو بأخرى عن احتياجها لهذا الحضن؟ ماذا لو أصبحت لمساتها لك أيها الابن أو أيتها الابنة أطول، واحتفاظها بجسدك بين ذراعيها يدوم لفترات أطول؟ ماذا لو أصبح الأب الذي لم يحضن أبناءه وهم أطفال، يتعلل بأي مناسبة ليحتضنهم؟
الحقيقة أن جسد الإنسان مثل صاحبه، عدوّ ما لم يألفه، فيقاومه. في دوائري الاجتماعية، أعرف كثيرين ممن يربكهم الأمر حد الاختناق، أو يهبط عليهم كعبء لا يحتمل. ليس سهلاً أن يتبدل ما اعتدنا عليه لسنوات طويلة داخل أسوار البيوت خاصة. شخصيًا، وإن أحاطني الارتباك، أرتمي في أحضان التجربة، وأنصح بذلك.
المسألة لا تحدث كثيرًا، ولا تستغرق إلا ثوانٍ، ولأنني قبل كل شيء، قررت ألا أكون كذلك، أو على الأقل أحاول. في النهاية، يظل في هذا التحوّل وقع لا يمكن التغاضي عنه:
أن ما لم يُعط يومًا قد يُعطى الآن، وأن الحضن، كلغة حب، وإن تأخر، يظل جسر محبة جديرًا بالمرور عبره، لنفسك ولهم.
نوافذ للتنفس
مع تواري أحداث الحياة علينا، نكتشف أن الحضن من يدٍ محبة قد يُغني عن مئات الكلمات، وأنه طوق نجاة يذكرنا بأننا لسنا وحدنا، وأننا مرئيون ومسموعون ومرغوب فينا وفي قربنا الجسدي.
تخيّل بيوتًا يصبح فيها الحضن عادة يومية، لا استثناء ولا حدثًا نادرًا. بيوت يترسخ فيها اللين كما يترسخ الكلام، فيغدو حضوره طبيعيًا مثل وجبة على المائدة أو صوت يُنادى به صباحًا.
في مثل هذه البيوت، ستتغير علاقتنا بأنفسنا أولًا؛ سنكبر أقل توترًا، أكثر تصالحًا مع ذواتنا والمحيطين، وسنفهم أن فتح هذا الباب لا يورّث ضعفًا كما خُيّل إلينا، بل على العكس، يصنع أرضًا أصلب للوقوف عليها. وستختلف علاقتنا بالآخرين أيضًا؛ المسافة ستبدو أقصر، والجسور أوضح، ومساحات التشارك أوسع. فالحضن عادة لا تربي الأجساد وحدها، بل تعلّم النفوس أن التواصل حق، وأن الترابط شرط للحياة، لا استثناء في ذلك.