⁠العاشرة مساءً
٦٢٩ كلمة

اكتشفت مؤخرًا حقيقة أزعجتني بشدة، وهي أني أصبحت أكثر جبنًا. توصلت لهذا الاستنتاج بعد فترة طويلة من الإنكار والمراوغة، لكن أعددت قائمة طويلة بأفعال قمت بها بناءً على الخوف: صمتُّ عن حقي في العمل، وأحجمت في موضع الاشتباك، وكتمت قناعاتي في قلبي حين كان لابد من قولها، وحذفت تعليقات طويلة بعد كتابتها، وابتسمت حين كان ينبغي أن أغضب، وبكيت حين كان ينبغي أن أصرخ.

ظللت لفترة طويلة أسمي كل هذه الأفعال بأسماء أخرى أخف وطأة من الجبن؛ النضج مثلًا، والعقلانية، وحساب المكسب والخسارة. ربما أيضًا أصفها بـالدبلوماسية واللباقة، ربما أدعوها حذرًا، والتزامًا بالسياق الاجتماعي، إلى آخره. لم يكن ابتداع مسميات مختلفة لكل تصرف مشكلة كبيرة، لأن أسهل ما يقدر الإنسان عليه هو خداع نفسه، لحظتها تتحد كل قدراته العقلية واللغوية لتسهيل هذه العملية.

يعرف العرب الجبن بأنه ضد الشجاعة، ويعرفونه بأنه سكون النفس فيما ينبغي أن تتحرك منه، وعند الخادمي: ”هو هيئة راسخة بها يحجم الإنسان عن مباشرة ما ينبغي أن يليق الإقدام عليه، بل يجب“. مسترشدة بهذه التعريفات، شخصت نفسي تشخيصًا أكيدًا بالجبن، وبدأت رحلة البحث عن علاج.

يبدأ العلاج بالبحث عن الأسباب. أظن أن السبب الأساسي لكوننا نصبح أكثر جبنًا هو مرور الزمن؛ يجفف مرور السنوات الشجاعة من منابعها في القلب. ربما لأننا نرى نهايات الشجعان في شبابنا، وربما لأننا نتحسس موضع أقدامنا خوفًا من فقدان مكتسبات الأعوام، وربما لأننا نميل لأكثر الاختيارات مأمونة العواقب توفيرًا لطاقتنا المحدودة الموزعة على مسؤوليات حياة الكبار.

في النهاية النتيجة واحدة: أننا نفقد روحنا الشابة، لأن الشباب في جوهره هو الشجاعة، هو مواجهة كل ما تلقي به الحياة في طريقك دون وجل.

لا تتعارض الشجاعة مع الحكمة، فالحكمة محمودة بلا شك، وهي أجمل ما يهديه لنا الزمن. لكن لو اجتمعت الشجاعة مع الحكمة، نكون جمعنا أنبل ما في الشباب وأفضل ما في النضج.

”فإذا هما اجتمعا لنفس حرة، بلغت من العلياء كل مكان.“

بدأت في محاولاتي الجادة لاستعادة شبابي عن طريق استعادة شجاعتي. كانت الخطوة الأولى هي أن لا أفكر كثيرًا في العواقب، لا أتحدث طبعًا عن الخطط الكبرى أو مشاريع الزواج أو الهجرة، بل عواقب الأفعال اليومية الصغيرة.

إذا أردت كتابة تعليق غاضب ردًا على إساءة، أكتبه في لحظتها، وإذا كانت لي ملاحظة عن شيء لا يعجبني وسيؤثر على حياتي بالسلب، أقولها ثم أفكر في عواقبها، وإذا استلمت دعوة لتجربة جديدة، أقرر الذهاب ثم أفكر في الجدوى في وقت آخر، وهكذا.

أُقدِم على الفعل أولًا، وأحافظ على وجود حركة ما في أي طريق، وأحرص على أي نوع من المبادرات وردود الأفعال، ولا أُعطِّل الحركة بالتفكير في العواقب والمعنى والجدوى وانطباعات الآخرين. أو كما نصح عبد ربه التائه في سياق آخر: تحرك دون إبطاء، فالمعنى كامن في الحركة. ولا شيء يبطئ كالجبن.

أما الخطوة الثانية لاكتساب الشجاعة، فهي التساؤل البسيط الذي يغيب عن بالنا أحيانًا بفعل القلق تحديدًا:

ما هو أسوأ شيء من الممكن أن يحدث؟ مثلًا، إذا قبلت الدعوة لهذه الندوة، وتحدثت فيها، ما هو أسوأ شيء؟ أن يمل الناس مني؟ أن يحرجني أحدهم بسؤال لم أستعد له؟ ثم ماذا؟ لا شيء، ربما سأرتبك، وربما سأجيب أو لا، ربما يرتعش صوتي أو يلاحظ أحدهم رعشة يدي.

لكنهم سينسون بمجرد العودة لبيوتهم. سألوم نفسي على أخطائي، لكن سأكسب التجربة والخبرة.

وهو عكس ما سيحدث لو اعتذرت من البداية، سألوم نفسي أيضًا على فوات الفرصة، وهو لوم أقسى وأكثر مرارة. لهذا في كل مرة نسأل: ما هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لو خضت التجربة؟ وما الذي سيحدث لو لم أخضها؟ ودائمًا، دائمًا، يكون عدم خوضها هو الأقسى.

وأخيرًا، فاكتساب الشجاعة هو مثل أي شيء آخر: بالتدريب.

في البداية يكون الأمر صعبًا ومفتعلًا، ثم يصبح جزءًا منا دون أن نشعر. ربما سنضطر للتظاهر بها، ربما نقدم على ما نقدم عليه بقلب مرتعش، لكن الآخرين لن يعرفوا أنه كذلك. وفي يومٍ ما، سنقوم بأكثر الأفعال شجاعة بتلقائية، ودون أن يرتجف أي جزء فينا، كأننا عشنا عمرنا كله نفعلها.

شارك هذا الـمقال