حكماء ولكن حكمتهم لا تصلح إلا أن تكون أفكارًا نظرية، ابتكروا نظريات جديدة مبهرة، وقادوا الحضارة في الأزمنة الغابرة، ولكن اليوم ليس لهم مكان إلا بين مجالس المتفذلكين الذين لا تقدم كلماتهم ولا تؤخر.
هكذا ساد الاعتقاد حول الفلاسفة والفلسفة في العصر الحديث، لما لا وقد أثبت العلم أنه المعجزة الحقيقية للحضارة الإنسانية، واضعًا نفسه على رأس المعارف البشرية، حتى بات في بعض الأحيان دينًا للمهووسين بالحقائق التجريبية.
كان ذلك نتيجة لانفصال العلوم المختلفة عن الفلسفة تباعًا، بدايةً من الهندسة على يد إقليدس قبل الميلاد، ثم الفيزياء على يد نيوتن، وتلاها الكيمياء ثم الأحياء، حيث سعى العلم للخروج بإجابات ترتبط بمعايير يمكن قياسها، أي ترتبط بالكم والكيف، بعكس الفلسفة التي بحثت عن إجابات كلية منبثقة من تصورات ميتافيزيقية حول حقيقة الكون والوجود.
وقد دعم الاعتقاد الذي يدّعي موت الفلسفة كثير من كبار العلماء المعاصرين، إما عمدًا أو دون قصد، على رأسهم الفيزيائي الأشهر ستيفن هوكينج، حينما أعلن في مفتتح كتابه «التصميم العظيم» أن «الفلسفة قد ماتت»، مبررًا ذلك بالتطور الكبير الذي طرأ على العلم، خصوصًا في مجال الفيزياء، مؤكدًا أن العلم قد قتل الفلسفة وأخذ دورها في الإجابة عن الأسئلة الكبرى.
ولكن هل يعد ذلك التصور صحيحًا؟ هل بات العلم أهم من الفلسفة حقًا؟ أم أن الفلسفة أصلًا لم تكن بتلك الأهمية من الأساس؟
فك الارتباط بين العلم والفلسفة
كان الفلاسفة قديمًا هم المسؤولين عن البحث والإجابة عن الأسئلة الهامة التي أرهقت أذهان البشر، إذ لم يكن هناك حدود تفصل بين العلم بمعناه التجريبي الحديث والفلسفة، بدايةً من فلاسفة الطبيعة في عصر ما قبل سقراط، وأبرزهم فيثاغورس، المعروف بإسهاماته في الهندسةبنظريته عن المثلث القائم الزاوية، حيث إن فيثاغورس كان في الأصل فيلسوفًا، بل كانت له مدرسة فلسفية هامة تخرج منها العديد من فلاسفة زمانه.
لكن يظل أشهر من جمعوا بين العلم والفلسفة، وربما أكثرهم كمالًا، هو أرسطوطاليس، فبخلاف كونه فيلسوفًا من بين الأهم في التاريخ القديم، أسهم كذلك في علوم الطب والأحياء والفيزياء والفلك وغيرها من التخصصات التي فصلها العلم الحديث عن الفلسفة لاحقًا.
وظلت الفلسفة والعلم في ترابط حتى القرن السابع عشر، بعد أن بدأ علم الفيزياء في الاستقلال عن الفلسفة مع جاليليو ومن بعده نيوتن، وحذا حذوه علم الأحياء مع لامارك ثم داروين.
بالطبع كان لذلك التطور الذي طرأ على العلم أثره على الفلسفة، فالمعرفة البشرية ليست جزرًا منعزلة تعمل كل منها على حدة، بل ترتبط فروعها ببعضها وتؤثر ببعضها البعض كذلك.
ربما يكون الإنجليزي فرانسيس بيكون (1561-1626) هو واضع حجر الأساس للمذهب الفلسفي الجديد الذي بدأ في الصعود مع الإرهاصات الأولى لانحسار أدوار الفلسفة لصالح أشكال أخرى من المعرفة الأدق، وقد أُطلق على هذا المذهب «التجريبية».
ذلك المذهب كان بمثابة النقيض للمذهب العقلاني الذي هيمن على الحضارة الغربية طوال قرون، ودارت أفكاره حول اعتبار العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة، منكرًا قدرة الحواس البشرية على تقديم معرفة صحيحة، إذ إنها قاصرة وغير منضبطة.
ظهرت التجريبية نتيجة لانكشاف حقيقة أن العقل لا يقدم دائمًا تصورات صحيحة عن العالم، حيث أثبت العلماء الأوائل ذلك عدة مرات، ربما أشهرها إثبات كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، عبر دراسة حركة الأجرام السماوية، أن الأرض ليست مركز المجرة كما كان يُعتقد قديمًا.
دعت التجريبية إلى أن المعرفة يمكن استخلاصها كذلك من الحواس، بل إن الحواس عامل ضروري لا يمكن الاستغناء عنه للوصول إلى أدق تصور ممكن عن العالم، فالتجارب العلمية خلال عصر التنوير والنهضة اعتمدت بصورة رئيسية على الثقة في الحواس، تلك الثقة التي كانت غائبة في عصر هيمنة المذهب العقلاني.
ليبدأ أفول عصر الفلسفة العقلانية التي ظلت وحيدة على الساحة قرونًا طويلة، ويبدأ عصر الفلسفة التجريبية التي صعدت نتيجة لتطور العلم وإثباته أن المنهج العلمي المعتمد على التجربة الفعلية يستطيع الوصول إلى حقائق يقينية أكثر مما تفعله الفلسفة بمنهجها المعتمد على تشريح العقل والتنقيب في تصوراته الميتافيزيقية عن العالم.
لكن ما لبثت تلك المدرسة التجريبية المتحمسة أن تضع الفلسفة في أزمة عميقة كادت أن تقضي على الفلسفة برمتها بل وعلى العلم أيضًا.
كيف أنقذت الفلسفة العلم؟
كما كانت الفلسفة قديمًا هي المنبع والمساحة الرحبة التي تطورت منها كافة أشكال المعرفة البشرية لاحقًا، كانت كذلك، بعد انحسار أدوارها لصالح العلم، الخطر الذي هدد مستقبل المعرفة بشقيها العلمي والفلسفي.
أخذ المذهب التجريبي في التطور خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر تزامنًا مع الثورة العلمية في تلك الحقبة، وكانت بريطانيا هي أرض التجريبيين، فخرج منها جون لوك وجورج بيركلي وديفيد هيوم وغيرهم. لكن الأخير لم تمر بصمته على الفلسفة التجريبية مرور الكرام.
ظهر ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر ليضع العلم في مأزق خطير بعد أن أنكر انتماء الاستقراء إلى المنهج العلمي أو المنطق، مرجعه إلى أسباب نفسية.
الاستقراء هو العمود الفقري للعلم، إذ من المستحيل اختبار كل القضايا العلمية تجريبيًا للوصول إلى استنتاجات صحيحة، فالمنهج العلمي يختبر حالة أو أكثر ثم يعمم النتيجة على كل الحالات المشابهة. لذا فإن المساس بمنطقية الاستقراء هو ضربة قاتلة للمنهجية العلمية.
استخدم هيوم مثالًا شهيرًا: شروق الشمس يوميًا منذ فجر التاريخ لا يعني منطقيًا أنها ستشرق غدًا، فهذا الاعتقاد ينتمي إلى دوافع نفسية لا يمكن تبريرها منطقيًا.
أحدث نقد هيوم للاستقراء هزة قوية في الأوساط العلمية والفلسفية، عجلت بظهور الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الذي اعترف أن «هيوم هو من أيقظه من ثباته».
كرّس كانط مشروعه الفلسفي لإنقاذ المعرفة البشرية من النفق المظلم الذي حفره هيوم، من خلال ثلاثيته الشهيرة في نقد العقل، موضحًا أن العقل البشري، رغم كونه الأداة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها، لا يقدم أجوبة نهائية لكل الأسئلة، وأن ذلك يعود لطبيعة العقل والعالم نفسه.
أكد كانط أن هذه الثغرات المنطقية لا يجب أن تفقد العقل إيمانه بالمعرفة العلمية، بل يجب إدراكها والمضي قدمًا ضمن ما يوفره العقل من إمكانيات.
لم تتوقف الضربات نحو المنهج العلمي عند هذا الحد، فقد حاول الماركسي الشهير فريدريك إنجلز الزج بالنظرية الماركسية تحت إطار «العلمي»، مدعيًا أن كارل ماركس وضع منهجًا علميًا لتطور المجتمعات كما فعل تشارلز داروين في نظرية تطور الأنواع.
هنا برزت الحاجة لتحديد معايير واضحة لما يمكن وصفه بالعلم، فلو قبل المجتمع العلمي بنظريات العلوم الإنسانية مثل الماركسية على قدم المساواة مع الداروينية أو الفيزياء النيوتنية، فما الذي يمنع اعتبار علوم الطاقة أو الأبراج علومًا فيما بعد؟
كان الفلاسفة مرة أخرى هم من أنقذوا الموقف، وعلى رأسهم الفيلسوف النمساوي كارل بوبر في القرن العشرين، الذي وضع معايير فلسفية صارمة لتحديد المنهج العلمي، أهمها القابلية للاختبار والقابلية للتكذيب.
أي أن النظرية العلمية يجب أن تكون قابلة للاختبار وقابلة للتكذيب. مثلًا: القول إن الماء يغلي عند 100 درجة مئوية يمكن اختباره وتكذيبه إن خالفت التجربة النتيجة. أما القول إن «الحرية أسمى معاني الوجود» فلا يمكن اختباره أو تكذيبه، وبالتالي ليس علميًا.
بفضل هذه المعايير الفلسفية الصارمة، أصبح من السهل اليوم استبعاد الأبراج وعلوم الطاقة من نطاق المعرفة العلمية، وهو فضل يعود أولًا وأخيرًا إلى الفلسفة، وليس العلم التجريبي.
الفلسفة لم تمت
بعد أن طورت الفلسفة المنهج العلمي ووضعت معايير صارمة لحمايته، يبرز السؤال: ما دورها اليوم في ظل التطور التكنولوجي الكبير؟
إن التطور التكنولوجي الهائل، وخاصة في الذكاء الاصطناعي، أعاد البشرية إلى الأسئلة الأخلاقية القديمة، لكن هذه المرة من موقع جديد.
ظهرت تقارير عن أنظمة ذكاء اصطناعي أبدت تصرفات عدوانية أو عنصرية، ما دفع البشر إلى الحكم عليها بأنها غير أخلاقية. هنا يظهر دور الفلسفة، إذ أن علم الأخلاق هو مبحث فلسفي بامتياز.
تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي ذاتي التعلم يفرض على الإنسان تحديد معايير الصواب والخطأ للآلات. لكن ما المنهج الأخلاقي المناسب؟ الأخلاق النفعية التي تركز على الصالح العام؟ أم الأخلاق الواجبة التي ترى الخير قيمة في ذاته حتى لو سبب ضررًا؟
لا شك أن الفلسفة هي التي ستجيب عن هذه الأسئلة التي قد تحدد مصير البشرية، مؤكدة أنها أم العلوم، وأن وجودها لا يزول إلا بزوال البشر أو بحصولهم على إجابات نهائية لكل أسئلة الوجود.