تقول الطبيبة النفسية إليزابيث كوبلر روس، في كتابها «الموت: مرحلة النمو الأخيرة»، إن:
«الأشخاص الأجمل من بين الذين قابلتهم هم أولئك الذين عرفوا الهزيمة والكفاح والعذاب والخسارة، ووجدوا طريقهم للخروج من الأعماق السحيقة. هؤلاء الأشخاص لهم رؤيتهم وحساسيتهم وفهمهم للحياة. الأشخاص الجميلون لا يأتون من لا شي».
تتناول كوبلر روس هنا الفجيعة موضوعًا لكتابها، لكنها لا تقصد أن نسعى نحو الهزائم، بل الجزء الأهم هو كيفية بناء حياة رغم تعثرنا في اليأس، وكيف نكون أشخاصًا جميلين حساسين نعيش حياة سعيدة.
يقول الطبيب النفسي المتقاعد رفا إيوبا إن أحد الأسباب التي دفعته ليصبح طبيبًا نفسيًا هو رغبته العارمة في فهم الطبيعة البشرية بكل تعقيداتها. رغم تفرُّد كل شخص، نتشارك جميعًا الرغبات والمخاوف نفسها، حتى دون ارتباطها بصحتنا النفسية. يتصدر ”هدف السعادة“ قائمة الأهداف التي لم يكفّ الإنسان عن السعي وراءها، فمَن لا يودّ عيش حياة سعيدة؟ لكن الفارق أن هذا الهدف يزداد حدة حين يأتي مصحوبًا باضطراب نفسي، أو وقت عصيب.
استغل إيوبا هذا الإلحاح الذي ظهر جليًا في مرضاه، إذ أحيانًا تنبع المشكلة كلها من انعدام إجابة واضحة لهذا السؤال، أو من عدم تلبية هذا الاحتياج، أو من غياب دليل لإدارة حياة سعيدة. يقول إن الحالات التي قابلها طيلة حياته المهنية أوضحت له أن السعادة هدف بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلًا. كيف؟ ما معنى هذا؟ جنون! ألن نسعد أبدًا؟ ليس بالضبط. يطمئننا إيوبا وكوبلر روس بأن ثمة هدفًا أكثر حكمة.
يحكي عن حالة تعامل معها: مارك، مكتئب منذ مدة طويلة، لكنه يقول إنه كان سعيدًا ومفعمًا بالحيوية، كل شيء يسير على ما يرام، مغامرات يومية وانطلاق مذهل. ثم فجأة انهار كل شيء. بعد أسئلة أكثر، اتضح أنه لم يكن بخير، بل كان منتشيًا قبل انهياره. لكنه يصر على أن ”مارك الذي يعيش الحياة بطولها وعرضها“ هو شخصيته الحقيقية.
مارك مصاب بـ اضطراب ثنائية القطب، الذي يغيّر مزاج المصاب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بحدة شديدة، لدرجة أن المصاب ينسى طبيعته المزاجية المستقرة. رغم تعاطف إيوبا مع مارك، فإنه يشير إلى أنه لو لم يكن يعاني من هذا الاضطراب، لتشبث بنسخته السعيدة المنتشية، ولساءه الانحدار نحو اليأس. لكن هذا النوع من السعادة ليس مستدامًا، بل خطير، ولهذا يعرف الطبيب أن أقصى أمل بعد العلاج هو الاتزان المزاجي، لا السعادة الدائمة.
السعادة التي يفتقدها مارك ليست حقيقية أو صحية، وعلاجه أن يتعلم كيفية السعي وراء ”السعادة النسبية“؛ أي الرضا المعقول، مع لحظات متقطعة من المتعة، وشيء من الألم، أي حياة عادية، هدف يمكن تحقيقه عكس أسطورة ”السرور الأبدي“. تغيير هذا الهدف ليس سهلًا، لأنه يتطلب إدراك أن الشقاء حالة طبيعية، وليس عرضًا مرضيًا دائمًا.
السعادة فكرة مجردة؛ لا مقياس موضوعي لها. اسأل نفسك: ما هي السعادة؟ أهي حالة من الرضا العام؟ أم حضور اللذة وغياب الألم؟ أم الصبر على الحياة؟ أم أن تجد الحب؟ أم أن تنام مطمئنًا وسط أسرتك؟ معظمنا لا يعرف، لأننا نخلطها بأشكال أخرى من الحياة.
يقول إيوبا إنه إذا تصفحنا وسائل التواصل الاجتماعي سنستنتج أن معظم الناس يرون السعادة مجرد حالة دائمة من المتعة والإثارة، نعتقد أنه يجب انتزاعها بأي ثمن. يزداد تشويه مفهوم السعادة لأننا نجهل ما يجري في حيوات الآخرين، ولا نعرف من آلامهم إلا ما يكشفونه، وهو غالبًا قليل، لأن أحدًا لا يريد نشر تعاسته علنًا، ولأن كشف الإخفاقات يضر بالصورة الاجتماعية التي نصنعها بعناية. هذا، كما يؤكد إيوبا، أدى إلى تضخيم هذا التشويه مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي.
الارتباك حول مفهوم السعادة يغذي رؤية سطحية، صورة بالأبيض والأسود، حيث تبدو الحياة العادية — المليئة بالهزائم والصراعات — حياة بائسة. هكذا رأى مارك حياته، ولهذا سعى وراء سراب سعادته. لكنه في النهاية تقبل ألا يتمسك بالحالات المنتشية، لأن التجربة علمته أن كلما ارتفع مستوى سعادته فجأة، كان الانهيار بعدها أصعب. تحوّل هدفه من الانتشاء إلى محاولة تقبّل مزاجه بكل حالاته.
المفارقة أن السعي وراء السعادة يولد الحزن، لأنها كالشبح الذي لن تكون مطاردته مجدية. نخطئ حين نظن أن السعادة هي السطح اللامع في حياة الآخرين، وهذا ما يضاعف آلامنا، بفعل التناقض بين ما نأمله وما نحصل عليه، والإحباط الناتج عن السعادة الموعودة التي لا تأتي. كما قال جورج برنارد شو:
«السعادة والجمال نواتج عرضية، والحماقة هي السعي المباشر لهما».
السعادة هدف خاطئ. البديل هو عيش الحياة بطرق تولد أقصى مستوى ممكن من الرضا، مع قدر معقول ولا مفر منه من الألم. قول هذا أسهل من فعله، لكن تجربة إيوبا مع مرضاه تشير إلى أن مجرد تغيير الموقف والمنطق الذي نواجه به الحياة يصنع فرقًا. يشمل ذلك التعاطف مع الذات بدلًا من لومها على كل إخفاق، وتقبّل الحزن كحالة طبيعية.
عوضًا عن التمسك بقناعة البحث عن السعادة القصوى — السعادة كما نراها في الإعلانات، السعادة الأسطورية، الحياة المثالية، المتعة المتصلة — علينا أن نتقبل أن أيًا من هذه التصورات لن يتحقق. وحده التقبّل هو ما يمنح الطمأنينة والسلام في حياتك، وهو أفضل ممثل عقلاني للسعادة. جميعنا نعرف الألم، وسنقابله كثيرًا، ولن يختفي أبدًا؛ لذا التصالح مع وجوده، مع محاولات غير مستميتة للتقليل منه، هو الخيار الأمثل والأجدى من مطاردة شبح السعادة المراوغ.
مصدر:
As a psychiatrist, I’ve seen how chasing happiness leads to misery | Psyche Ideas
Gaining Wisdom May Require More Growing Pains Than You Think | Psychology Today