⁠العاشرة مساءً
٧٩٢ كلمة

في مكتبتي الخاصة تفحّصت الأسماء الكبيرة المطبوعة على الكتب: كافكا، فان جوخ، فريدا كاهلو، غاليليو، سقراط. كنت أبحث عن كتاب أقرؤه بعدما قررت التوقف عن جمع الكتب دون قراءتها منذ عامٍ تقريبًا — سأشتري عندما أنتهي مما أملك.
تذكّرت أن كل اسمٍ وراءه سيرة مليئة بالصدامات العائلية، والفقر، والمرض، والمحاكمات أو النفي. ثم راودتني خاطرة مربكة قد تبدو ساذجة: ماذا لو كانت الظروف مختلفة تمامًا؟

تخيّل معي… سيناريوهات معاكسة

ماذا لو كان والد كافكا أبًا عظيمًا وحنونًا وعادلًا؟
وماذا لو عاش فان جوخ حياةً مُقدَّرة منذ بدايتها أو وُلِد غنيًّا يجد حوله من يحتضن تجاربه الأولى بدلًا من تجاهلها؟
وماذا لو لم تتعرض فريدا كاهلو لحادثها ولم تصاحبها الآلام طوال حياتها؟
وماذا لو وُلد غاليليو في عصر أكثر تقبّلًا، أو عاش سقراط في سياق لا يواجه فكره بالمحاكمة؟

السؤال الذي يطل من هذه التخيلات: هل الشقاء والمأساة ضروريان — وربما حاسمان — لنشوء الإنجاز العبقري؟

أم أن العبقرية كانت ستجد مجراها أيضًا لكن بملمسٍ آخر، بإيقاعٍ مختلف، وبنبرةٍ أقل حدة وأكثر اتساعًا؟

المبدع أم عمله… أيهما أهم؟

إذا سلّمنا جدلًا بأن السعادة الشخصية لا تنجب بسهولة عملًا ”يغيّر قواعد اللعبة“ — أي عملًا يهز الفن أو الأدب أو يدفع العلم خطوة في اتجاه جديد — فمن الأهم: مبدع يظل بخير، أم عمل يدوّي في التاريخ؟
أيّهما أثقل في ميزاننا الأخلاقي والإنساني والبراجماتي؟

سؤال غير مريح، لأننا حين نمجد العمل وننسى صاحبه نخاطر بجعل الألم وقودًا مشروعًا دائمًا. وحين نمجد الإنسان ونهون من أثر العمل، نخشى أن نسقط القيمة العامة لصالح العزاء الشخصي فقط. ربما ليست ثنائية صفرية، وربما نحتاج منظورًا يرفض مقايضة إنسانية المبدع بخلود المنجز، ويبحث عن مساحة ثالثة يقول فيها الفن والعلم: ”يمكن أن نصدر من حياة أقل قسوة، دون أن نفقد العبقرية.“
لا أدري…

كيف نحدد ”القيمة“ أصلًا؟

هنا أدخل إلى لبّ ما يُحيّرني: من يعرّف القيمة والجدارة؟ هل هناك معايير ثابتة؟ أم أن الأمر خليط من الذائقة العامة والسياسة والثقافة ومن يمسك مفاتيح المؤسسات؟

فان جوخ مثال حاضر. في زمنه كان لا أحد تقريبًا، وبعد عقود صار اسمه يُتلى في ممرات المتاحف وتعلو لوحاته إلى مقام لا يُمَسّ. من غيّر تعريف قيمته؟ أهو الزمن الذي أعاد ترتيب الذوق؟ أم مؤسسات الفن والنقد التي صاغت سردية متينة؟
أم نحن معًا — جمهورًا ونخبة — نصنع درجات السلم ثم نتعامل معها كأنها قوانين طبيعية؟

وما القيمة أصلًا؟ هل هي حضور الأثر في الوجدان؟ عدد المرات التي نعود فيها إلى العمل؟ القدرة على فتح باب جديد في الخيال الجمعي؟ أم هي تلك الشرارة التي تجعل شخصًا واحدًا يشعر بأن حياته قد اتسعت سنتيمترًا إضافيًّا؟

سيرة تتغيّر بتغيّر السياق

فكّر في غاليليو لو عاش زمنًا آخر. ربما لم يحتج إلى كل هذا التوتر مع السلطات الدينية والسياسية، وربما لم يكن يُنظَر إليه بوصفه متمرّدًا على السائد. وسقراط لو عاش في مدينة تُتيح مساحة أكبر للجدل، ربما ما انتهت حياته إلى فاجعة، وربما ظل معلّمًا يسير في الأسواق من دون أن يجرب كأس النهاية. هل كان نتاجهما سيكون هو نفسه بلا شدة المواجهة؟ أم أن الفكرة الأصيلة تشق طريقها بطريقة أخرى؟ ما نعرفه أن الأزمنة تصنع سيرة ثانية للمبدع، فالقيمة ليست فقط ما نفعله، بل أيضًا كيف يُستقبل ما نفعله، ومن يملك مكبّر الصوت ساعة نُقدِّم ما لدينا.

”الحزن سيستمر دائمًا“ — لكن هل يجب أن يستمر؟

تُنسب إلى فان جوخ عبارة أخيرة بالفرنسية: La tristesse durera toujours ”الحزن سيستمر دائمًا.“ تطرق هذه الجملة القلب بقسوتها وصدقها. لماذا مات رجل بهذه الحساسية فقيرًا ومهمَّشًا وممزق الروح؟ ولماذا لم تُنقذه موهبته من وحدته؟

إن كانت القيمة بيد الناس، فكيف تركناه يرحل هكذا؟ وإن كانت بيد المؤسسات، فمتى استيقظت لكي تراه؟ وإن كانت بيد الزمن، فكم من فنان وعالم سيغادر قبل أن تمنحه السنوات اعترافًا متأخرًا؟

كل هذا يعيدنا إلى سؤال البداية: هل الألم شرط للعبقرية أو لعمق الأفكار؟ أم أننا فقط اعتدنا قراءة القصص التي يعلو فيها صوت الألم فصرنا نظن أنه الممر الوحيد نحو الخلود؟ ربما السعادة قادرة أيضًا على إنتاج عبقريتها، لكنها قد تكون أقل درامية وأكثر استقرارًا، ولا تصنع حكايات صاخبة، لذلك لا نسمع عنها كثيرًا.

نحو قراءة أرحب للإنجاز

لو أُعيدت كتابة تاريخ الفن والعِلم بمنظورٍ يعتني بالمبدع لا بآلامه فحسب، كيف سيتغيّر الذوق العام؟ هل نرفع أعمالًا ونسرد سيرًا تُظهر أن الصحة والسعادة يمكن أن تكون رحمًا للفن، وأن الاستقرار لا يعني سطحية، وأن التقدير المبكر لا يفسد البذرة بل قد يحميها من الاحتراق؟

ربما نحتاج إلى سرديات تثبت أن الاعتناء بالإنسان لا ينتقص من إبداعه، وأن الرفق بالمبدع ليس ترفًا أخلاقيًا، وإنما استثمار في ما يستطيع أن يقدمه وهو سليم.

هذه المرة… مقال يتنفّس معك

حتى الآن هذا النص مملوء بالأسئلة، لا توجد إجابات جاهزة هنا. هذا مقال تفاعلي معك — نفكر سويًا بدل أن أكتب وحدي. ربما سأكتب رأيي في مقال آخر، لكني اليوم أفضل أن أبقى مع الأسئلة مفتوحة كي نسمع معًا صداها في حياتنا نحن، في طرق تقييمنا لأنفسنا، ولمن نحب، ولمن نقرأ له، ولمن نستمتع بفنه.

ما رأيك أنت؟
أنا هنا لأسمعك..
هذا المقال دعوة مفتوحة لنفكر سويًا:
هل نقدر أن نكرم المبدع وإبداعه معًا… دون أن ندفع أحدهما قربانًا للآخر؟

شارك هذا الـمقال