هل جربت يومًا أن تجلس وحدك في حُجرة فارغة؟ بدون هاتفك الجوال، بدون كتاب، بدون تلفاز، لا شيء في الغُرفة إلا أنت وهواجسك. هذا ليس مشهدًا خياليًا إنما تجربة علمية نُشرت نتائجها في مجلة Science عام 2014.
جلس المُشاركون في التجربة ولم يكن أمامهم في الغُرفة إلا زر بريء الشكل، ولكن تم إبلاغهم أن الضغط عليه يقوم بتوصيل شُحنة كهربية مؤلمة إلى الجسم.
معظم المُشاركين فضّلوا ضغط الزر رغم التحذير عوضًا عن أن يبقوا 15 دقيقة فقط دون الانخراط بنشاط. كان فعل شيء، حتى لو كان مؤلمًا، أفضل بكثير من عدم فعل شيء على الإطلاق، والاستسلام لجلسة مُملة.
يختلف الملل عن أحلام اليقظة أو الشرود. يُعرّف السيكولوجيان جيمس دانكيرت وجون دي ايستوود الملل في كتابهما المشترك: Out of My Skull: The Psychology of Boredom بأنه ليس شعورًا ولكن عملية إدراكية قوامها:
”الرغبة في فعل شيء ما، ولكن دون الرغبة في فعل أي شيء“.
نشعر بعقولنا مثل أوعية فارغة يجب ملؤها بشيء ولكن لا شيء في ذلك الوقت يكون كافيًا. ولذلك قد نلجأ في لحظة بعينها إلى مُحفزات للخروج من تلك الحالة، حتى لو كانت بقسوة التعرض لصعقة قصيرة.
لا يوجد مكان في إيقاع حياتنا الحديث للملل، حيث يقوم البشر الآن بأنشطة أضعاف ما كان يقوم به الفرد العادي منذ قرن أو أكثر. لذلك الزمن المعاصر الوحيد الذي سماه البشر حديثًا زمن ازدهار الملل (boom time for boredom) كان وقت الكورونا، حيث احتاج الأمر جائحة فيروسية تكتسح العالم وتوقف أنشطته قسرًا، وتسجننا في منازلنا كي نقف وجهًا لوجه أمام الملل.
ولكن شكوى الملل ليست حديثة. في كتابه «الملل: تاريخ حي» يصف ويليام توهي ملل الفيلسوف سينيكا منذ آلاف الأعوام عندما قال الأخير:
”إلى متى ستبقى الأمور نفسها؟ بالتأكيد سأتثاءب، سأنام، سأأكل، سأعطش. ألا يوجد نهاية؟“
بينما وصف رهبان العصور الوسطى الملل بـ ”شيطان الظهيرة“ كأن شيطانًا يتسلل إلى عقولهم عندما تنتهي أعمال اليوم ويخبرهم أنهم سيكررون اليوم نفسه غدًا.
ولكن هل يُمكن أن يكون الملل صديقنا؟
1- لا تقاوم حالة الملل
لم يُفكر كثير من المُشاركين في تجربة الصاعق أن ربما هدف التجربة هو الاستسلام للملل وليس مقاومته. ترى كاتبة الغارديان إيلي هانت أن الشعور بالملل يُشبه التواء الكاحل، حدث لم تطلبه لكنه قد يحدث في حياتك عرضيًا أكثر من مرة. لا تحاول عندها أبدًا إجبار كاحلك على العودة إلى طبيعته، إنما استقبل الألم وتفحّصه باعتباره جزءًا من الظرف الإنساني، ويُمكن أن يصير جزءًا من خبرة أكثر ثراءً من الألم المحض.
2- الملل ليس حالة يجب التخلص منها، إنما دعوة ثمينة من العقل للتفكير فيما هو أهم
يعتبر بروفيسور الإدارة في جامعة هارفارد Arthur C. Brooks أن الملل حالة ينتقل فيها العقل إلى نظام تفكير يُدعى default mode network أو بالعربية حالة راحة يقظة يتحرر فيها العقل من الانشغال بالمهام اليومية ويتتبع الأسئلة الكبرى مثل:
- هل نريد أن تستمر حياتنا على تلك الوتيرة؟
-
لماذا نقوم بتلك الوظيفة بالأساس؟
- هل يُمكن أن نستثمر طاقة عقولنا غير المُفعّلة في تتبع أحلام أكبر؟
أسئلة بالتأكيد تجعلنا أقل راحة وأكثر قلقًا، لكنها تُخرجنا من الغرق في التفاصيل إلى رؤية صورة حياتنا بالكامل من الخارج.
3- لماذا ننتظر أن يُهاجمنا الملل في غرفة مُغلقة؟
ماذا لو استدعينا الحالة بإرادتنا وتحكمنا بمُخرجاتها؟ يختار السيكولوجي جون ايستوود أن يقوم بتمرين عمدي في بداية كل يوم يُسميه «التأمل الداخلي البناء» وفيه يستدعي الملل وكل المشاعر المصاحبة له، ويسائل بوصلته الداخلية عن مهام يومه قبل أن يبدأها: هل تصب في النهاية في صالح الأهداف التي يُريدها أم لا؟
بتكرار العملية يصير العقل أكثر ترحيبًا بالملل وأقل خوفًا من تحمّل الأفكار التي يكشفها.
4- لا يظهر الملل في صورة وحش يتربص بنا إلا لو كانت وتيرة حياتنا أسرع من قدرتنا على رؤيته
وصف الفيلسوف برتراند راسل الجيل الذي لا يستطيع تحمّل الملل، بـ أزهار مقطوعة عن جذورها، متروكة لتذبل في مزهرية. المثير أن راسل مات منذ أكثر من نصف قرن. لذلك كان انتقاده موجهًا لأجيال عاشت حياة أهدأ في إيقاعها بكثير من الأجيال الحالية، ومع ذلك لاحظ الفيلسوف عدم قدرتهم على تحمّل الملل.
في كتابهما عن سيكولوجية الملل، لاحظ دانكيرت وايستوود أن وسائط التواصل الحديثة التي لا تتركنا لحظة فارغي الأيدي من متابعة شيء ما أو الانخراط في مشاهدة ما، تجعل وتيرة الحياة مُتسارعة مثل تيار جارف. ولذلك عندما يأتي الملل يكون قويًا مثل تيار مضاد يجرفنا معه دون أن نحاول استغلاله، لأننا في كلتا الحالتين (الانشغال التام والفراغ التام) لم نتعلم كيف نسبح بأنفسنا وبالوتيرة التي نختارها.
امتلاك وتيرة حياة معتدلة وخيوط التحكم بها في يد الإنسان يجعله أكثر قابلية للتحكم في حالة الملل عند حدوثها، وقادرًا على تخليق استفادة منها بتحويلها إلى تأمل إيجابي بدلًا من أن تجرفه إلى أفكار سلبية يحتاج معها إلى مُشتتات ومحفزات أقوى للخروج منها.
في النهاية يرى بروفيسور آرثر بروك أن حياة لا تُجيد فيها استقبال شعور الملل والتفاعل معه هي حياة أنت عرضة فيها للاكتئاب وغياب المعنى أكثر من غيرك. لأن الملل هو الدعوة التي تُقدمها الحياة لك كي تتحدى حالتك الراهنة لمُمكناتك الكامنة بداخلك، كي تواجه أسئلة كبرى لا تطرحها أبدًا المهام اليومية. عليك فقط أن تتوقف وتُنصت.