هل حدث يومًا أن قضيت عشر ساعات أو أكثر على لعبة ”ڤيديو جيم“، وما إن انقضى اليوم وخلدت إلى نومك، حتى أخذت تفاصيل اللعبة في تشكيل أحلامك، واقتراح وسائل تتغلب بها على منافسيك يمكنك أن تستخدمها في المرة القادمة التي تلعب فيها؟ أو حتى قررت قضاء يومك في مشاهدة عدد كبير من حلقات مسلسل رشحه أصدقاؤك، وليكن Game of Thrones مثلًا، وما إن انقضى اليوم حتى أخذت تحلم بعالم من العصور الوسطى يتقاتل فيه البشر مستخدمين السيوف، في عالم تملؤه الأساطير والسحر والتنانين؟
تُعرف تلك الحالة باسم تأثير لعبة تتريس (Tetris Effect)، وفيها يختبر البشر تفاصيل من نشاط مارسوه بكثافة في حياتهم الواعية، فينتقل معهم إلى عالم الأحلام حيث حياتهم اللاواعية. وما إن يمارسوا هذا النشاط لفترات زمنية أطول، حتى يأخذ في تشكيل جوانب أخرى من حياتهم اليومية، فمثلًا، يلاحظ المهتمون بلعبة Tetris أن المباني السكنية المرتفعة يمكن تدويرها وقلبها رأسًا على عقب حتى تتناسب مع مبانٍ أخرى في المساحة، أو حتى يقومون بإعادة ترتيب علب الطعام في مكانها في السوبر ماركت حتى تتساوى في خط أفقي واحد لا ينقصه أي فراغ.
لكن ما هي لعبة Tetris أصلًا؟ ولماذا هي مشهورة إلى هذا الحد؟ وماذا عرّفتنا تلك اللعبة عن عقولنا ما لم نعرفه من قبل؟
الإسهام الأخير للاتحاد السوفيتي: عالم كلما نشيده ينهار
لعبة Tetris هي لعبة فيديو اخترعها المهندس والمبرمج السوفيتي ألكسي باجيتنوف. ففي منتصف الثمانينيات، وبينما هو يستخدم جهاز كمبيوتر Electronica 60 لاختبار كود برمجي كجزء من عمله في أكاديمية العلوم، فإذا به ينجرف ويأخذ في كتابة كود آخر للعبة ألغاز بسيطة للغاية.
فاللعبة عبارة عن سبعة أشكال تُسمى تترومينوس (tetrominos)، وكل شكل عبارة عن تكوين من أربعة مربعات، تهبط هذه التكوينات من أعلى لأسفل، ومع كل مجموعة تتراكم، لا بد من تدوير الشكل التالي الذي يهبط كي يناسب الفراغ بين هذه التكوينات. وما إن يكتمل خط أفقي من المربعات، فإذا به يختفي تمامًا. وهذا هو الهدف الواضح من كل مرحلة من اللعبة: محاولة شطب أكبر عدد من الخطوط الأفقية، قبل أن تتراكم الأشكال في حالة من الفوضى تنتهي بخسارة اللاعب.
وفي نهاية الثمانينيات، تقع تلك اللعبة التي لم تُصمَّم للتداول على نطاق واسع في يد مصمم ألعاب أمريكي، فيقرر شراء حقوق اللعبة من الاتحاد السوفيتي، وخوض معركة كبيرة ضد خصومه في مجال الألعاب الإلكترونية الذين حاولوا الحصول عليها بالاحتيال. وفي النهاية، ينجح المصمم في بيع اللعبة لشركة نينتندو (Nintendo)، ويقنعهم بتوفير اللعبة على كل أجهزة Game Boy الجديدة بدلًا من ماريو، لتصل عدد نسخ تلك اللعبة على كل الأجهزة الإلكترونية إلى 202 مليون نسخة بحلول عام 2011.
لكن كيف تحولت لعبة بسيطة هكذا لتصبح أعظم لعبة فيديو في تاريخ الألعاب؟
يقول ألكسي باجيتنوف: ”جاءت Tetris لتلبي رغبة عميقة، فكلنا نحمل داخلنا رغبة في ترتيب العالم وتخليصه من الفوضى، وهذا ما تفعله عقولنا عندما نلعب Tetris.“
لكن الكاتب آدم ألتر يقول في كتابه ”Irresistible: The Rise of Addictive Technology and the Business of Keeping Us Hooked“ إن السبب أعمق من هذا، فاللعبة بلا نهاية محددة سلفًا، لكنها عند كل مرحلة تُكافئ اللاعب على تحقيق إنجاز مؤقت، سواء في شطب الخطوط الأفقية أو في تجاوز المرحلة. لكن على المدى البعيد، فاللعبة سوف تهزمك لا محالة، وخصوصًا بعد تسارعها عند مرحلة معينة. إنها تشبه الحياة بشكلٍ أو بآخر.
اللعبة تُعيد هندسة عقولنا
بمجرد أن تربطك اللعبة بها، حتى تجد نفسك وقد قضيت عشرات ومئات الساعات وأنت تلعبها. هنا يبدأ تأثيرها في الظهور، كما لاحظ أهم لاعبيها في التسعينيات. ففي مقال منشور في مجلة Wired، يقول جيفري جولد سميث إن قضاء أسابيع أمام تلك اللعبة يؤدي إلى تزايد نشاط القشرة الأمامية للمخ وزيادة معدلات استقلاب الجلوكوز، أي أن المخ يستهلك طاقة أعلى أثناء لعب Tetris.
لكن بعد بضعة أسابيع، فإن تلك الطاقة المستهلكة تنخفض للوضع الطبيعي، وفي الوقت نفسه يتحسن أداء اللاعب وسرعة استجابته بمعدل سبع مرات على الأقل. وُجد أن هذا الانخفاض في استهلاك الطاقة يعني أن خلايا المخ قد تعلّمت، وقامت بإعادة ربط نفسها، وتوقفت عن التواصل مع المادة الرمادية غير الفعالة في أداء أي مهمة خاصة بمعالجة الصور أو الاستجابة لها.
وبدلًا منها، فالروابط الخلوية الجديدة أخذت في الاهتمام فقط بملاحظة الأنماط ووظيفتها والتفاعل معها. لذلك، فبمجرد التوقف عن اللعب، فإن الدماغ لا يتوقف بتلك البساطة، بل يستمر في معالجة كل المدخلات كما لو كان في عالم Tetris، وهو ما دفع جيفري للتساؤل في مقاله:
هل صنع ألكسي باجيتنوف مخدرات إلكترونية (Pharmatronics)؟
تخضع لعبة Tetris للدراسة منذ تسعينيات القرن الماضي، وتحديدًا من قِبل مجالات علوم الإدراك والطب النفسي. وبسببها، خرجت أهم الاستراتيجيات المستخدمة في صناعة الألعاب الإلكترونية اليوم، وهو ما عزز خواصها الإدمانية.
لكن، وفي عام 2017، نشرت جامعة أكسفورد دراسة عن القدرة السحرية للعبة في علاج أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). فخلال تجربة لعبها في أول 6 ساعات من حادثة تصادم، وُجد أنها تقوم بإعادة برمجة الذاكرة، وقطع الطريق على الذكريات المؤلمة التي يتم استدعاؤها، وتسبب لصاحبها صدمة نفسية قد يحتاج لشهور لمجرد علاجها.
يبدو أن ما تخبرنا إياه لعبة Tetris عن عقولنا، هو أن سلوكنا يمكنه أن يُعدِّل من طريقة عمل عقلنا. يمكننا أن نتعلم ونركز فقط على ما يفيدنا، أو نكتسب عادات تضرنا بنفس الطريقة.