⁠الخامسة عصرًا
٦٠٣ كلمة

«تيجي نتجوز عُرفي؟»

«موافق جدًّا..»

تصمت لحظة، ثم تقول ضاحكة:

«عبد الله، أنا كنت بهزر!»

لم أحب مزحتها قط، ورغم انزعاجي من تحطيم الخطط التي وضعتها خلال الثواني التي دار فيها هذا الحوار العابث أُنهي المكالمة دون انفعال. أعود إلى الغرفة حيث زوجتي تشاهد Reel على هاتفها وتبتسم بوداعة طفولية. أدرك فجأة أني كنتُ على وشك التورّط مع هذه الفتاة، وكسر قلب زوجتي؛ أشعر بخفة لم تزُرني منذ فترة طويلة، وأقفزُ إلى السرير حامدًا الله أن أنقذني هذه المرة، وأفكِّر فيما إذا تعرضت لمثل هذا الموقف ثانيةً.. أؤكد أنني سأوافق مرةً أخرى دون تردد!

يدفعني الضجر في كثير من الأحيان إلى سلوكيات وأفعال لا علاقة لها برغباتي الحقيقية. فقط أقيس قدرتي على الفعل وإمكانية التنفيذ. لا ألتفت نحو العواقب أو التبعات. أوافق على عرض زواج عُرفي من فتاة أعرف جيدًا مدى استحالة أن يجمعنا مكان واحد ليومين متتاليين. أقدِّم استقالتي من العمل الذي أحب دون أن يكون لديَّ خطط بديلة أو أي مصدر دخل آخر. أقرر الانفصال مرارًا لا لشيءٍ سوى أنني أشعر بالضجر الشديد.

يتعلق الأمر، فيما أعتقد، بالفراغ الذي يلتهم عالمي باستمرار، ويتركني وحيدًا في مواجهة الضجر؛ ألجأ عادةً إلى مثل هذه الأفعال كحيلة دفاعية لإنعاش الحياة وتحريك المياه الراكدة.

أبحثُ عن معنى الضجر في المُعجم، فأجد من المترادفات ما لا أستطيع اعتباره وصفًا حقيقيًا له، فهو «الملل» تارة، وأخرى «السأم» إن أضفنا إليهما بعض الضيق والتبرم؛ تمامًا كمن يعرِّف الماء بالماء. أسأل عددًا من الأصدقاء عن تعريفاتهم الخاصة، فأفاجأ بإجاباتٍ متنوعة حتى أشعر أن الكثير منهم يخلط بينه وبين أشياءٍ أخرى، وتخطر لي احتمالية أن الضجر مرتبط بكل شيء.

تتشكل تصوراتنا عن الحياة منذ الطفولة، وتتضح أكثر في فترة المراهقة، ثم تتحطم مع الوقت عندما نصطدم بالواقع. يتبع ذلك سلسلة من الإحباطات المتكررة، ونجد أنفسنا فجأة نعيش في عالمٍ لا نريده؛ تسيّرنا الحياة بطريقتها الخاصة. نقاوم. نتطلع إلى عالمٍ أكثر ملاءمة، عالمٍ يخص كلًّا منا. نكتشف مدى صعوبة الوصول، وسرعة التغيرات، وكثرة الخيارات، وضيق الوقت. وعندما نستسلم لهذا العالم المفروض علينا تتبلد مشاعرنا، ويبدأ الضجر في التهامنا.. ببطء.

هذا بالضبط ما حدث لبطل رواية «الشحاذ» للأديب المصري الكبير نجيب محفوظ، حيث تحوّل «عمر الحمزاوي» من محامٍ بارز وثري وزوج صالح يعيش حياة مستقرة إلى متسولٍ يشحذ المعنى ويبحث عن طريقةٍ لقتل الضجر وملء الفراغ.
«ما أفظع الضجر..» يقولها بطل الرواية حانقًا، ويستطرد واصفًا إياه بأنه «الحموضة التي تُفسد العواطف الباقية». تسوء حالته في كل لحظة، ويغرقُ في مستنقعٍ لا فكاك منه، ويناجي نفسه قائلًا: «قد قتل الضجر كل شيء»!

وعلى نحوٍ مماثل، يعاني «دينو»، بطل رواية «السأم» للأديب الإيطالي ألبرتو مورافيا، فهو رسام في منتصف الثلاثينات من عمره تستنزفه حالة من فراغٍ داخلي وسأمٍ شديد. يهجر الرسم إذ لم يعُد يجد فيه أي معنى أو غاية، ثم يدخل في علاقة مع فتاة تصغره بسنوات أملًا في أن يستعيد ذاته، غير أنه يكتشف سريعًا أن كل ما حوله من أشخاصٍ وأشياء يتبدد معناه، فلا الفن ولا العلاقات يملآن الفراغ الذي ينخره من الداخل.

يقول مورافيا على لسان بطله محاولًا وصف السأم/الضجر:
«إن سأمي يشبه انقطاع المجرى الكهربائي في بيت. فكل شيء منير واضح، في لحظة من اللحظات، هنا الكراسي، وهناك الأرائك، وهناك الخزائن والمناضد واللوحات والبسط والطنافس والنوافذ والأبواب، في اللحظة التالية لا يكون ثمة بعد إلا ظلام وفراغ.»

وفي تشبيهٍ آخر، يقول:
«إن بالإمكان تعريف سأمي بأنه مرض للأشياء، وهو عبارة عن ذبول أو فقدان للحيوية مفاجئان تقريبًا، فالأمر كأنما هو رؤية زهرة تتحول في بضع لحظات من التفتح إلى الذبول إلى التفتت.»

كل هذه التعريفات والتشبيهات لا تجعل الضجر أقل مكرًا في حياتي اليومية، فهو لا يظهر في صورة نظرية أو استعارة فقط، بل يتجسد في مواقف صغيرة وعابرة. أضحك الآن حين أتذكر تلك المكالمة. ربما كانت أسوأ مزحة على الإطلاق، لكنني أعلم جيدًا أن الضجر سيجد طريقة أخرى، قريبًا، ليورطني في مزحة جديدة.

شارك هذا الـمقال