⁠الخامسة عصرًا
٩٦٢ كلمة

في ركن منسي من المنزل، وجدت حزمة دفاتر خضراء صغيرة يكسوها الغبار.

عرفتها من النظرة الأولى. هذه محاولاتي في أزمنة قديمة لكتابة مذكراتي. لا أعرف ما الذي دفع صبيًا بين الثامنة والخامسة عشرة لكتابة مذكراته بانتظام، ولكن هذا ما حدث!

ماضٍ يُطل برأسه. ينظر إلى ما آلت إليه الأمنيات والمخاوف. ينظر إلى ما صار عليه الصبي.

في الدفتر الأول وجدت نصًا غريبًا. يبدو أنني في عمر الثامنة، حسمت أمري: سأكون صحافيًا.

لم أكن أعرف وقتها ما يفعله الصحفي تحديدًا، لكنني كنت منطويًا، يكوّن الصداقات بصعوبة، ويلتهم الكوميكس.

في هذا العالم المصور وجدت كلارك كينت. صحفي خجول يرتدي عوينات ضخمة، غريب عن العالم الذي يحيط به. كان سوبرمان امتدادًا مثاليًا لشخصيتي الداخلية، لكنه كان صديقًا يفارقني في لحظة بعينها، حين يدخل كابينة هاتف عمومية ويخرج في صورة سوبرمان، وقد أزال عن نفسه رداء بشريته بعوارها وترددها ونقصها.

في سن العاشرة، كنت أختلس كروت ميناتل القديمة من حقيبة أمي، فقط لتقليد المشهد، الوقوف أمام كابينة عمومية وإدخال الكارت وانتظار لحظة سحرية أتحول فيها إلى بطل خارج أقل قلقًا. لم يحدث ذلك أبدًا (ولن أخبرك لو حدث طبعًا).

قرر خيالي أن يحيل سبب فشلي في التحوّل إلى حقيقة أن كبائن ميناتل ليست مغلقة كما هي كبائن هواتف ميتروبوليس.

التحول سري ومقدس، لا يمكن أن يحدث أمام العامة. ساعدت هذه التفصيلة في استدامة الخيال طويلًا.

وطالما أن هذا التحول إلى سوبرمان لن يحدث قريبًا، فعليّ أن أقطع نصف المسافة نحو سوبرمان. أن أصبح كلارك كينت. كلارك كينت صحفي.

وماذا يفعل الصحفي في كل مربعات الكوميكس؟

يكتب.

لابد من الكتابة إذن. حافظت على كتابة مذكراتي لأعوام تالية. اكتسبت العادة رسوخها حتى بعد أن نسيت بمرور الأعوام أن كلارك كينت هو ملهمي الأول.

غادرتني مرحلة الكوميكس بعد ذلك. ولكن بمتابعة القراءة، تبدت لي بالتدريج ملامح فكرة مخيفة: كانت كل تخيلاتي عن نفسي في المستقبل تنطلق من أفكار هذا الصبي. لم يغادرني هذا أبدًا.

لا أزال أتخيل ذاتي مثل كيان آخر، خارق، مبالغ في قوته وتقديره. كيان أضع عليه مهامًا ثقيلة لا تُحتمل، عبء تعويض كل محدوديتي الراهنة، كل ما لست عليه.

قرأت عددًا من الأبحاث تشير إلى أن معظم البشر لا يمكنهم تخيّل أنفسهم مستقبلًا باعتبارها امتدادًا لهم، إنما باعتبارها ”آخر“ فعلًا. يعني أنت تتخيل نفسك في المستقبل باعتبارها شخصًا آخر، لا ”أنت مستقبلًا“.

في التجارب، كان التفكير في الذات بعد عشر سنوات يُثير نمطًا عصبيًا في الدماغ يحدث عندما نفكر في شخص آخر.

هذا يعني انخفاض قدرتنا على تمثل أنفسنا في المستقبل، أو التعاطف مع ذواتنا بعد سنوات.

كيف نتعاطف مع ما لا ندركه؟

على هذا الأساس، فأن تلتقي نفسك القديمة هي مكاشفة ثقيلة، لأن تلك النفس لم تزل أبدًا، ما أنا عليه الآن هو أثرها.

عندما انتهيت من قراءة الدفاتر، وجدت نفسي أفكر في عنوان رواية خلابة للكاتبة هيرتا موللر:

ليتني لم أقابل نفسي اليوم.

تطل نفسي القديمة من دفاتري.

ها أنا في سن الثانية والثلاثين، ممتهنًا للكتابة بصور شتى. أكتب عن نفسي، عن شخوص خيالية. أكتب سكريبتات لحكايات مرئية تُشبه الكوميكس، بطلها الدحيح، شخصية خيالية شهيرة بتوترها.

شخصية منعزلة تصطنع من عزلتها مشاركة عابرة لغرفتها مع ملايين المتابعين، ومحاورة حول العالم والأشياء، لكنها لا تتورط في النزول إلى هذا العالم أبدًا واختباره.

لا يصعب أن أكتب لأجل تلك الشخصية أبدًا، لأنها تشبهني في إطلالتها على العالم.

أتخيل نفسي القديمة تسخر مني، لأنني لم أتحرك بعيدًا عما كنته وأنا طفل. استبدلت فقط تلك الدفاتر الخضراء بكتابة إلكترونية على لاب توب حلمت باقتنائه منذ سن العاشرة. وسيلة التدوين باتت خارقة وحديثة، أما فعل الكتابة نفسه فلم أغادره.

أنا كلارك كينت للأبد.

لا يمكنني العودة بالزمن، أو أن أكون بطل القارئ الخارق ومنقذه في هذا النص، ولكن يمكنني، بتجربتي، ككاتب، كباحث، كشخص يقرأ كي يفهم، أن أساعدك في التعامل مع نفسك المستقبلية.

تلك الشخصية الخيالية التي ربما علينا أن نعيد تصور علاقتنا بها.

عزز روابطك بذاتك المستقبلية

يرى الباحث Hal E. Hershfield أن الخيار الأصح هو أن نتخيل ذواتنا المستقبلية، مثلما نفعل بالضبط حين نتخيل أقاربنا أو أصدقاءنا.

هم ”آخر“، ولكنهم آخر قريب منا.

تُظهر الأبحاث أن تخيل ذاتك، أو ما ستكون عليه مستقبلًا، في صورة أكثر واقعية مثل صديق، قد يغير حياتك كليًا.

من يتخيلون أنفسهم بهذه الطريقة، تصبح ذواتهم الحالية أكثر قدرة على الادخار المالي، وأكثر شجاعة في اختيارات مسارات مهنية تعبر عنهم، بل وأكثر مواظبة على بعض العادات الصحية مثل الرياضة.

كلها قرارات تمنح الأولوية للذات القادمة، حين نرتبط بها بشكل صحي، عوضًا عن شخص مستقبلي غريب لا نرتبط معه.

بل ويجعلنا نرتد يائسين إلى أنفسنا الحالية، غارقين في قرارات يومية، بدلًا من أن نتصل عاطفيًا مع أنفسنا في المستقبل.

تخيل ذاتك المستقبلية في صورة أوضح

في واحدة من التجارب، حوّل الباحثون فكرة الذات المستقبلية إلى واقع، أكثر وضوحًا من فكرة خيالية في أذهاننا. تعرض المشاركون، من خلال برامج افتراضية، لصور مُخلقة لهم مع ملامح متقدمة في العمر. وكان أن وجد الباحثون أن التعرض لصور واضحة على هذه الشاكلة يُحفز سلوكيات أكثر إيجابية على المدى الطويل، تحديدًا في المجالات المالية والأخلاقية والصحية.

يعني أن فعل التخيل نفسه، أن نتخيل أنفسنا في المستقبل، يجعلنا نتخذ قرارات أكثر رأفة ورحمة بها. نحن نشعر بالمسؤولية تجاه تلك الذات المستقبلية حين نراها، حين تخرج من عالم الخيال إلى الواقع.

لم يعد بالإمكان تجاهلها.

لن تجد أبدًا لحظة مثالية.

النصيحة الأخيرة تخرج من مجال العلم، وتجد ضالتها في الفلسفة، يقول سورين كيركجارد:

«من الصحيح تمامًا، كما يقول الفلاسفة، أن الحياة يجب فهمها بالرجوع إلى الوراء. لكنهم ينسون الافتراض الآخر، ألا وهو ضرورة عيشها بالتطلع إلى الأمام…»

يروض كيركجارد ندمي على قراءة دفاتري وذواتي القديمة، باعتباره ندمًا لا يمكن تجنبه كليًا، أنت تفهم بالرجوع للوراء، لكنك في حياتك تتحرك إلى الأمام، وفي ذلك التناقض تكمن رحلتك.

ذاتي المستقبلية تنتظر ما سأفعله الآن، ذات سأكون أنا الآن بالنسبة لها دفترًا قديمًا باليًا.

هذا يعني أن العودة بالنظر لأنماطنا وذواتنا القديمة، مع التطلع بالعينين نحو ما سنكونه، هو وضع مؤلم بالتأكيد، لكنه مُثمر.

يعيش الإنسان تحت رحمة الزمن، لا خارجه، لا توجد بقعة مثالية ومريحة لرؤية الأمرين معًا.

ولذلك في كل مراجعة لذاتك القديمة والقادمة، ستجد بعضًا من ندم، وبعضًا من أمل.

وهذه المفاوضة هي الحياة نفسها.

شارك هذا الـمقال