⁠الخامسة عصرًا
٨٠٠ كلمة

البارحة أو الأسبوع الفائت. أمامي دفتر جديد وقلم لامع لم أستخدمه من قبل، وقائمة من الأفكار غير المكتملة، وطبعًا أفتح فيديو عن ”كيف تجد أسلوبك في 3 خطوات“، ثم قائمة كتب ترشح ”أهم ١٠ موارد لأي فنان ناشئ“.
كل شيء كان جاهزًا للكتابة… إلا الكتابة نفسها.

شعرت أنني عالقة في لحظة ما قبل البداية، وكأن كل ما أعرفه هو التحضير للأمر بدل الدخول فيه. وقتها خطر لي سؤال مربك:
هل أخشى ما قد يكشفه قلمي عني حين أكتب؟ ماذا لو كان ما سيظهر أقل مما أتوقع… أو أقرب إليّ مما أتحمل؟

أنا أعرف هذا الخوف. أعرف كيف يندس داخل الحماسة المبالغ فيها للتعلم. كيف يختفي وراء ابتسامة ”بعد ما أجهّز كل حاجة، هبدأ بقى“. التعلم في ذاته شيء جميل، يوسع المدارك ويمنحنا لغة جديدة، لكنني ألاحظ كيف يتحول أحيانًا إلى ستار نختبئ خلفه. ستار نؤجل به لقاءً أصعب: لقاء صوتنا نحن.

ربما نهرب لأن الصوت الشخصي يشبه مرآة غير مضمونة: لا نعلم ماذا ستكشف، ولا إن كانت ستثبت الصورة التي بنيناها عن أنفسنا، أو تهزها حتى. شعور مرعب!

تُنسب إلى فريدا كاهلو عبارة لافتة حين سُئلت عن كثرة صورها الذاتية:

”أنا أفضل موضوعًا أعرفه… والموضوع الذي أريد أن أعرفه أكثر.“

أحب هذا المعنى. بالنسبة لي، يمكنني أن أقول: ”أنا الموضوع الذي أتعرّف إليه كل يوم، والذي أتجنّب معرفته حين أنام… أعني حين أتحوّل إلى نسخة آلية.“ وبين هذا وذاك، أجدني في لحظة التعبير — بالرسم أو بالكتابة أو بأي وسيط بينهما — يخرج هذا ”الأنا“ إلى النور.

الخوف ليس من الورقة البيضاء كما كنت أظن، وإنما من هذا الظهور.

لماذا نعلق في مرحلة التخطيط؟

لأن التخطيط يعطي شعورًا مريحًا بالسيطرة. حين أخطّ خططًا ومسارات جميلة على الورق، أشعر أنني اقتربت من الإنجاز، مع أنني لم أضع بعد كلمة واحدة أو خطًّا واحدًا.
التخطيط يُصالح قلقي: كل شيء يبدو محسوبًا وقابلًا للقياس. أما لحظة البدء فتحمل عكس ذلك: انكشاف وارتجال وشيئًا من الفوضى.

لذلك يتضاعف الميل للبقاء في مرحلة التهيئة (لها مصطلح مصري آخر أترفع عنه الآن): شراء الدفاتر، إعادة تنظيم المكتب، جمع مصادر إضافية، مقارنة البرامج، وسؤال الأصدقاء عن رأيهم في خطة لم تبدأ بعد. في الظاهر هذا شغف، وفي الحقيقة هو تجنّب وهروب.

هناك سبب آخر أكثر حساسية: ما نخافه ليس الفشل فقط (أو النجاح في حالات أخرى)، وإنما التعرّف الحقيقي إلى ما بداخلنا. التعلم يمدّنا بأسماء الآخرين وأصواتهم، ونحن نلوّح بها كتعويذات تطرد عنا فكرة الجهل وعدم المعرفة. لكن كلما زاد ما نحفظه، زاد احتمال أن نتأخر عن إنتاج أفكارنا الخاصة الأصيلة.

الفكرة هنا ليست ضد المعرفة على الإطلاق، إنما ضد التعلّق بها على حساب التجربة. ما نؤجله فعلًا هو اللقاء مع المجهول الذي لا كتاب يكتبه نيابةً عنا، لأننا نحن كُتابه الأصليين.

المجهول الذي نصنعه… ونحن مسؤولون عنه

هذا المجهول هو المساحة البيضاء التي سنخلق فيها شيئًا لا نعرفه مسبقًا، ونحن مسؤولون عن تكوينه… ومسؤولون عن استقباله أيضًا. هذا مقلق لكنه مثير. حين أبدأ الكتابة من دون خارطة مكتملة، أسمع الصمت أولًا، ثم تلتقط يدي خيطًا صغيرًا. أصلح جملة وأترك أخرى، وأقترب سطرًا وأبتعد سطرين. مع الوقت يظهر أثر خفيف لشيء يشبهني، شيء لم أكن لأراه لو ظللت أجمع المصادر فقط.

دعني أسألك هنا سؤالًا قد يبدو مزعجًا:

ماذا لو لم نكن من نظن أننا عليه؟
ماذا لو خرج من بين أيدينا نص لا يشبه صورة الكاتب المتخيلة في رأسنا؟
أحب أن أتبعه بسؤال آخر:
وماذا لو كنّا بالضبط من نظن؟ أي أن العمل يكشف لنا طبق الأصل ما نتفادى النظر إليه.

كلا الاحتمالين يحتاج شجاعة:
الأولى شجاعة خيبة الأنا المثالية، والثانية شجاعة مواجهة الأنا الحقيقية بما فيها من نقص وتناقض.

لماذا نتمسك بمرحلة التعلم؟

لأنها آمنة: لا أحد يقيمك وأنت تقرأ أو تشاهد فيديو تعليمي جديد. ولأنها تمنح مكافآت سريعة: إحساس التقدم، وإشارات الإعجاب حين تشارك ملخص كتاب، وشعور ”أنا أتعلم جيدًا – أنا أفعل شيئًا مهمًا.“ كما أنها تؤخر احتمال الصدام مع صفحة لا تقول لك ”برافو شاطر“ بل تنتظر منك فعلًا لا مخططًا.

التعلم يمنحنا خارطة الطرق، لكن الطريق لن تُفرش تحت أقدامنا إلا حين نخطو. وكل خطوة تصنع جزءًا من الخارطة التي لم يرسمها أحد من قبل: خارطة أفكارك أنت، وطقوسك، ومشاعرك، ولغتك مع نفسك.

كل مسودة تُنقّي التي بعدها، وكل تعديل يُقوي يدك، وكل محاولة تجر أخرى. ومع الوقت لا تعود تكتب مثل أحد ولا ضد أحد، بل مع نفسك.

البداية!

أحيانًا يكفي سطر واحد أو جملة متعثّرة على لوحة المفاتيح حتى يتحرك شيء داخلك. ليس الهدف أن يكون ما تكتبه أو ترسمه ”جيدًا“ من اللحظة الأولى، بل أن يكون موجودًا. الوجود نفسه بداية كافية. مع كل محاولة، يتغير تعريفك لماهية صوتك. في مرة يكون مرتبكًا، وفي أخرى أكثر وضوحًا، ثم فجأة تكتشف أن ما خرج منك لم يشبه ما خططت له أبدًا، لكنه يشبهك أنت.

هنا تكمن المتعة الحقيقية:

أن تعثر على نفسك في أماكن لم تكن تتوقعها.

التأجيل يمنحك وهم السيطرة، بينما الفعل يقدم لك فرصة اللقاء.

وفي الحقيقة، قد يكون لقاءً مربكًا أو غير مريح، لكنه على الأقل لقاء صادق. وفي كل مرة تقترب من هذه المواجهة، تصبح الورقة البيضاء أقل قسوة، وبك أكثر إنسانية.

شارك هذا الـمقال