⁠الخامسة عصرًا
٦٢٤ كلمة

على الإنسان أن يخاف على نفسه، هذا الشعور مُبرر والمعطيات تُنذر بالخطر.

أقولها لنفسي بينما أسير نحو احتراف الهرب (مجددًا).. لكن.. السبب.. هُنا.. مـهِـم.

في عام 1971 سجلت تجربة ستانفورد للسجن أمام العالم، مؤرخة حتى يومنا هذا حقيقة البشر الهشة.

في التجربة، عرّض مجموعة من الطلاب للضغط والسلطة، بينما منح مجموعة مقابلة من نفس المستوى سلطة مطلقة جاءت معها القوة في بيئة سجن مختلقة. وقدّم لهم 15 دولار يوميًا.. ما يعادل 120 دولار (اليوم).

هنا جاءت الصدمة، أو كما أحبّ أن أطلق عليها: النبوءة.

التجربة لم تكمل ستة أيام.. وأفرادها انسحبوا واحدًا تلو الآخر بعد أن عبّروا بكل ما فيهم عن الهلع والذعر من هذا التغير السريع في ما حولهم مقارنة بما في داخلهم.

ستانفورد لم يحاكِ السجن فقط.. لكنه — وربما بلا قرار منه — قفز للمستقبل، وحاكى صناديقنا التي بتنا نقع فيها كل يوم ومع كل سنة نحتفل فيها بمرور عمرنا (أكثر). في تجربته ومع تغيير معطيات حياة الطلاب بشكل كامل، غاب الشخص، غابت أحلامه، مهاراته، مستواه الاجتماعي، وابتلعه النظام القاسي ليُضيع فيه هويته ويصبح في أقل من ستة أيام مجرّد رقم.

ما الذي يحصل للإنسان إذا جردته من كل ما هو؟ ينهار من الداخل، قطعة بعد قطعة.. بعد قطعة. والسيء في هذا الانهيار، أنه لا يلاحظ. تقول للجميع: أنا أخسرني.. فيأتي الرد: (تحمل).

أستيقظ كُل يوم، أحاوِل الذهاب للعمل، أرتدي ما لا أحب، أبتسم لمن لا أقدِّر وأبلع أفكاري العديدة مع قهوة الصباح، فالقصص تُهان إذا تم روايتها للشخص الخطأ. أنظر في وجوه الناس بدّقة، وأحاول اختيار اللغة التي علي استخدامها بناءً على ما أرى، ولو نجحت في اختيار اللغة، عليّ تحديد اللهجة، ولو اجتزت هذه المرحلة وتلك.. عليّ الآن اختيار الموجة التي سيدور حولها الحوار.

لا أعرف بيتي هنا، ولا هناك، ولا في أي مكان. مقتنياتي متناثرة بين الحدود حرفيًا، والتفاصيل التي كنت أعتاش عليها باتت تتناثر من بين أصابعي.القطة السوداء، تتذكرني.. ما هي المدة المطلوبة التي قد أغيب عنها فيها فيأتي اليوم الذي لا تقفز فيه على قدمي عندما أغادر (التكسي؟).. سؤال آخر.

هنا يأتي شعور الغدر، أكثر المشاعر وطأة على قلبي.. لكنه مُتعب أكثر لأنه جاء مني، لي.

المعضلة هنا ليست بوجود حياة أفضل، بل بأنني أعرف تمامًا أين تقع الحياة التي أُحب، أختبرها ثم أغادِرها. وبحقيقة أنني الآن كطالب أمام ستانفورد، أو هذا ما أشعر به على الأقل. لكن التجربة هنا أخف وطأة، وانهياراتي ولو كانت تبدو مبالغًا فيها، فهي لا زالت انهيارات صغيرة. لست أصرخ مثلهم ولا يمكنني الهرب ذعرًا بعد ستة أيام.

الضرر يأتي بجرعات صغيرة تتراكم فوق بعضها البعض، وأنا أقف في زاوية الغرفة أشاهده. ثم أهرب.. أهرب منه متى استطعت. (أنا بس آجي هون بحس حالي بعالم موازي وكإني رجعت أنا) أقولها لأصدقائي بينما تتحلق حولي القطط.

للعامة يبدو الأمر سخيفًا: كل خمسة أيام تقفز هذه الفتاة في رحلة جديدة تقطع فيها الحدود لتقضي نصف اليوم على الكنبة في منزلها القديم والنصف الآخر على كنبة الأصدقاء.

رحلة.. وبطاقات بنكية: حاولي القيام بأمر ممتع.

لكنني أفعل.. (يفشل) البشر أحيانًا في تقدير المهم فالأهم.

مرحبًا كيف حالك؟ هل يمكنك أن تأخذني للعمل؟
نعم بالطبع.
أتعرف أكره هذا المكان..
الكثير من البشر يكرهون أعمالهم..
أنت لا تفهم، هذا المكان يسرق مني شيئًا عملت جاهدة لبنائه كل يوم.

ربما كان أفراد تجربة ستانفورد على حق عندما هرعوا نحو الباب، ضاربين بحُب العلم والأموال الحائط، مرددين بأن هذا الأمر صعب ووقعه خطير على أنفسنا، فوداعًا.

وربما كانوا أجبن من البقاء حتى النهاية، لو تحملوا أكثر فقد تكون نهاية التجربة كُتبت بشكل مختلف.

كل الأشياء معرضة للتغير فجأة. لكن المعضلة هُنا تكمن في إدراك الإنسان لقلبه الذي يحيد عن الطريق. والخوف من أن يكون أول من يجاوب على السؤال مرددًا عند فوات الأوان.

نفسي سالت مني، وأنا تحملتُ (أكثر) حتى جفّت. ثم إن القطط هُنا تبدو حزينة، ووجوه البشر تضحك في الأسواق فقط.

متى سأتوقف عن ملاحظة هذا الأمر وأصبح جزءًا من المشهد؟

من عاشر القوم أربعين يومًا صار منهم.. لكنني لست منهم، لم أكُن يومًا منهم.

شارك هذا الـمقال