فوجئت قبل أسابيع، بتسريب ضخم تحت الحوض.
حاولت الاستعانة بسباك. أجريت بضع مكالمات. أخبرني الرجل عبر الهاتف أن أقرب موعد بعد أسبوع وأن الأمر سيكلفني قرابة المائتي استرليني،
”يا نهار أسود“ قلتها بالعربية طبعًا.
فكرت: المشكلة كلها ”جلدة كوع محتاجة تتغير“ شكرته.
قررت، كأي دمياطي أصيل أن أحل المشكلة بنفسي.
لم أمارس السباكة أبداً في حياتي. عملت كنجار، أو للدقة ”صبي نجار“ في واحدة من إجازات المدرسة الإعدادية. لم أستمر طويلًا في تلك الورشة. خافت عليّ أمي من مخاطرها. فقد زميلي، الذي يصغرني بعدة أعوام، إبهامه حين وضع يده غافلاً على ”الرابوب“.
قررت أمي أنها لن تنتظر حتى يصيبني أمر مماثل. أخبرت أخي ”لو عايز يشتغل شوفله حاجة تانية“.
كنت الابن الذي يحظى بالقدر الأكبر من الدلع منها، لأنني الأصغر. ولأنني أيضًا الوحيد الذي لا يملك أي ذكرى مع والدنا الذي توفي وأنا في طور الرضاعة.
عملت بعدها في ورشة ”للأويما“، حفر نقوش ورسوم على الخشب. عملية دقيقة حساسة تستلزم تناسقًا عضليًا عصبيًا. لم أفلح. تطورت ببطء شديد. ربما لأنني بدأت متأخراً. كان عندي 13 سنة.يعمل الأطفال في دمياط في اليوم التالي للفطام تقريبًا. ليس غريباً أن تجد طفلًا في الثامنة له خبرة سنوات بين الورش.
المهم..
عملت بعدها ”استورجي“، عملية أقل مهارة، ترتبط بالدهانات. تطور الأمر للصيف الذي يليه حين تحول ”معلمي“ للنقاشة، وتحولت معه،
كاد الأمر أن ينجح، لولا أن صدري بدأ يضيق بفعل الدهان، فتوقفت.
عودة إلى موقفي المحتاس أمام كوع الحوض في لندن..
طلبت ما يلزمني أونلاين. فككت الكوع. كان الأمر أعقد مما ينبغي، احتوى الكوع على الكثير من الزوائد البلاستيكية التي لم أفهم منطق وجودها، لم أغير أي شيء، ركبت الجلدة، أعدت تركيب الزوائد البلاستيكية كما كانت، وشغلت المحبس.
لم يعد الأمر تسريبًا الآن.. صار تياراً.
حاولت أن أفهم ما الذي يحدث. التسريب يحدث من خلال الكوع، الكوع سليم، الجلدة جديدة، لماذا يستمر التسريب؟
لا أعرف!
مرة.. أخبرتني أمي أنني وأخي ورثنا حب تفكيك الأشياء وإصلاحها عن أبي. كان أبي كفيف البصر. لكنه كان يحب استكشاف أعطال الالكترونيات حين تتوقف عن العمل. كان يصلح المروحة والراديو والتسجيل والمكواة. يعرف كيفية توصيل الدوائر الكهربية دون أن يراها. يتداول الأقارب تلك الحكايات وكأنهم يتحدثون عن بطل خارق.
تقول أمي أن الأمر وصل لدرجة أن واحدة من جيراننا حدثت عندها ”قفلة“ في التيار الرئيسي الموصل لشقتها، فطلبت من أبي أن يساعد في هذه المشكلة.
وصلت أمي من عملها، لتجده يبحث عن المشكلة بين أسلاك صندوق الكهرباء الرئيسي، قوته ٣٢٠ فولت بالمناسبة. صرخت أمي في الشارع: ”أنت بتعمل ايه يا شيخ محمد؟“
الشيخ محمد كان يجرب.
أخبرتني أمي لاحقاً في ليلة رحيلها أنه عاتبها أنها أوقفته عمّا كان يفعل. ”كان زعلان اني زعقتله عشان هيموت نفسه“، ثم استطردت: ”بس كان جميل الله يرحمه“.
المهم..
بعد يأس من استكشاف مشكلة التسريب الذي صار نهرًا في مطبخي، اتصلت بسباك مختلف، أعطاني سعرًا معقولًا وأخبرني أنه لن يستطيع المجيء قبل ثلاثة أيام.
استسلمت لهزيمتي. انتظرت السباك، كان هذا هو الأمر الأكثر صعوبة.
كانت أمي تقول لي دائما أنني ”عِنَدِي“ و”لمض“. وربما عندها حق. حين أخبرتها برغبتي في العمل كمصمم جرافيك، وأنني أبحث عن فرصة للتعلم من خلال العمل في مطبعة للدعاية في دمياط، قابلت الأمر برفض شديد. ”عايز تطلع بتاع كروت“. ”لا طبعًا. هابقى بتاع يفط“.
كان هذا الرد جادًا، غير مدرك للعبث.
”خليني أجرب، مش يمكن أنفع؟“.
كنت قد بدأت تعليم نفسي الجرافيك من خلال المنتديات المنتشرة وقتها. أنظر لأعمالي، شديدة السوء، بإعجاب شديد. أناديها وأنا ”شحط“ في الثانوية العامة: ”بصي يا ماما! عملت ده“.
تنظر إلى الشاشة، تظهر خيبة أملها في أصغر عيالها، تغالب هذا الشعور وهي تقول بابتسامة واسعة ”حلوة أوي. قوم بقا شوف مذاكرتك“.
سيتكرر الموقف، هي لا تملك إلا تشجيعي وهي محبطة، وأنا ”لسه باجرب“.
بعدها بأعوام ثلاثة، ستشارك هي وأخي في تمويل مكتبي الأول للدعاية والإعلان في دمياط.
اقتنعت.
بدأت تخبر صديقاتها: ”حسام بقا مصمم دعاية“، كنت وقتها طالبًا جامعيًا.
سيفشل المكتب، أنا آسف. ليست هذه قصة نجاح من إياهم. سترحل أمي، لأبدأ في تجربة جديدة، وأتعلم أشياء أخرى.
سيخبرني ابني أنه لا يستطيع فعل كذا، فأخبره أن يجرب ”مش يمكن لما تجرب تطلع بتعرف؟“، لا ينجح، فأخبره أن ”يجرب تاني“.
حتى في فريقي، يسألني أحدهم ”ينفع نعمل كذا“ فيكون ردي ”ما تجرب يا أخي، أنت خسران حاجة؟“
الحياة بالنسبة لي هي عبارة عن تجربة كبيرة.
هذا الموقع الذي تقرأ عليه الآن كتب في تعريفه أنه ”محاولة أخيرة لفهم العالم“، وحتى لو فشلت هذه التجربة، سيكون هناك غيرها بالتأكيد.
حين هزمني الكوع البلاستيكي، أخذ الأمر عندي حجمًا أكبر مما يستحق.
”ازاي أجرب ومعرفش!“
تمر بخاطري الآية: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى). أهدأ قليلاً، أذكر نفسي أن الأمور أبسط، وانه ”مش لازم كل تجربة تنجح“، ”وبعدين ده مجرد كوع، انت مالك بالسباكة“.
جاء السباك المُنتظر. فك الكوع، نظر إليّ وسألني:
”what the F are these plastic things“
جثث معركتي الفاشلة.
رفعت كتفيّ. أخبرته أنها كانت هناك بالفعل، أخبرني أنه لا يفهم. ما هو منطق وجودها؟
ثم قال جملته التي صعقتني “ let’s try to remove them and see“.
أنت عايز تقوللي أنك جاي تجرب!
تخلصنا من الزوائد البلاستيكية، قام الرجل بتركيب الكوع، وتوقف التسريب.لم يقم السباك بفعل أي شيء، واتضح انني عندما جربت ”طلعت باعرف!“، أو على الأقل، كنت أقترب. طبعًا وصل هو إلى الحل مستبصرًا بسنوات من الخبرة والمحاولات الفاشلة تحت التوجيه. أما أنا فجرّبت دون دليل إلا دماغي. لا بأس. لن يوقفني هذا غالبًا عن تجربة شيء آخر في المرة القادمة. ربما يتضح أنني أعرف.
على كل حال.. كلفتني هذه التجربة مائة استرليني.