⁠الخامسة عصرًا
٤٨٦ كلمة

في الصورة، يبدو القائد محاطًا بالناس، مشغولًا طوال الوقت، مطلوبًا في كل اتجاه. لكن خلف ذلك كله، كثير من المديرين يعيشون ما يُشبه العزلة العاطفية والفكرية: لا أحد يصارحهم، لا أحد يطمئنهم، لا أحد يُراقب إرهاقهم. ومن بين كل المقاعد في الفريق، يبدو أن مقعد القيادة هو الأبعد عن الدفء.

هذه ليست عزلة مكانية، بل عزلة معنوية.

ففي اللحظة التي تصبح فيها ”الرأس“، تتغيّر طبيعة العلاقة مع الآخرين. يتردد الناس في النقد، يصمتون أكثر مما يتكلمون، ينتظرون منك الحسم، لا المشاركة. يُظهرون الدعم، ويخفون الشك. فتجد نفسك تدريجيًا في جزيرة، جميلة من الخارج، موحشة من الداخل.

دراسة حديثة نشرتها Harvard Business Review عام 2024 أظهرت أن 61% من الرؤساء التنفيذيين يشعرون بالوحدة في مواقعهم، وأكثر من نصفهم يعتبر أن هذا الشعور يؤثر سلبًا على قدرتهم على اتخاذ القرار.

لكن لماذا يحدث هذا أصلًا؟ ولماذا ترتبط القيادة بالخوف أحيانًا، لا بالثقة؟

أولًا، لأن القائد الحقيقي ليس متفرجًا، بل صانع قرار.

وصناعة القرار دائمًا عمل وحيد. لا أحد يتحمل العواقب سواك، ولا أحد يعرف كل التفاصيل مثلك. وهذا في ذاته يُربك حتى القوي، لأنه يعني أنك تحمل ثقل الجميع، دون أن يراك أحد يتألم.

ثم هناك الخوف من فقدان السيطرة، أو فقدان الاحترام، أو فقدان الصورة التي بُنيت طوال الطريق. فالقائد لا يُتوقع منه أن يتردد، أو أن يضعف، أو أن يسأل سؤالًا ساذجًا. وهذه التوقعات تدفع كثيرًا من المديرين إلى إخفاء توترهم، وعزل قلقهم في الداخل.

لكن هناك عاملًا أخطر: الصمت داخل الفريق.

حين لا يجرؤ أحد على نقدك، أو لا يُشاركك أحد الرأي الصادق، فأنت لا ترى نفسك كما ينبغي.

مشروع Google Aristotle أثبت أن أهم سمة للفِرَق الناجحة لم تكن الذكاء، ولا الكفاءة، بل السلامة النفسية، أي قدرة الفريق على أن يتكلم بحرية أمام القيادة، دون خوف من الإهانة أو العقاب.

غياب هذه المساحة يُحوّل الفريق إلى مرآة مزيفة، ويترك القائد معزولًا في دوّامة الشك:
هل يتبعونني لأنهم يثقون بي؟ أم لأنهم يخافون مني؟
هل أنجح فعلًا؟ أم أن الجميع يُجاملني؟

وهكذا تبدأ الوحدة تأكل من الداخل، دون أن تترك أثرًا على المظهر.

الأخطر من ذلك، أن كثيرًا من القادة لا يُفصحون عن هذه الوحدة، لأنهم يخشون أن تُفسَّر ضعفًا، أو يظنون أن ”القدوة“ يجب أن تكون متماسكة دائمًا.

لكن الحقيقة أن الإنسان لا يفقد قيادته حين يعترف بوحدته، بل حين ينكرها حتى على نفسه.

في دراسة ميدانية من London Business School (2023)، ظهر أن القادة الذين يملكون شبكة دعم شخصي أو مهني (حتى خارج العمل)، يكونون أكثر قدرة على تحمّل الضغط، وأقل عرضة لاتخاذ قرارات متسرعة.

العزلة ليست قدَرًا. يمكن اختراقها، لكن ليس من خلال الاجتماعات، بل من خلال علاقات حقيقية، ومحادثات غير رسمية، وشركاء لا يخافون منك.

القيادة لا تعني أن تكون دائمًا في القمة، بل أن تعرف متى تنزل قليلًا، وتُصغي، وتتشارك القلق، وتسمح للآخرين بأن يروك كما أنت: إنسانًا يفكر، يتعب، ويحتاج أحيانًا لمن يفكر معه.

ربما لا يمكننا إزالة الوحدة بالكامل من مقعد القيادة، لكن يمكننا أن نعترف بها، أن نفهم آلياتها، أن نخفف آثارها، وأن نبني فرقًا لا تُبقي القائد معزولًا… بل مسؤولًا ومحاطًا.

شارك هذا الـمقال