⁠الخامسة عصرًا
٣٨٦ كلمة

تخيل أن تُطفئ هاتفك، وتغلق حاسوبك، وتغيب أسبوعًا كاملًا عن الفريق.. لا اجتماعات. لا رسائل. لا قرارات مصغّرة كل صباح.
هل تتوقّع أن تعود لتجد كل شيء كما تركته؟

أم أنك تخشى أن يتجمّد العمل، أو ينحرف، أو تنهار التفاصيل الصغيرة التي ظننت أنها محكمة؟

هذا السؤال، رغم بساطته، يختبر أكثر من مجرد مهارات إدارية، إنه يُعرّي العلاقة بين القائد وفريقه: هل هي قائمة على التمكين؟ أم على الاعتمادية؟

هل يعرف الفريق كيف يعمل دونك؟ أم أن حضورك هو العمود الوحيد الذي يُبقي السقف مرفوعًا؟
القيادة ليست تواجدًا دائمًا، بل أثر دائم. وغياب القائد لا يُفترض به أن يكون تهديدًا، بل اختبارًا صامتًا لما بُني بالفعل.

في دراسة من INSEAD على أكثر من 150 فريقًا في شركات ناشئة، ظهر أن الفرق التي اعتمدت على قائد ”مُسيطر حاضر دائمًا“ كانت أكثر إنتاجية على المدى القصير، لكنها فقدت مرونتها وفاعليتها بمجرد غياب هذا القائد المؤسس.

في المقابل، الفرق التي مارس قادتها التفويض المنظَّم، والسماح بالخطأ، وإشراك الفريق في القرار — كانت أبطأ في البداية، لكنها أكثر قدرة على النجاة عند غياب القيادة المباشرة.

ورقة عمل أخرى من INSEAD (2023) بعنوان ”لماذا لا يفوّض المدراء؟“ بيّنت أن 73% من المدراء يعترفون بأنهم يُمسكون بأكثر من اللازم، حتى حين يعلمون أن ذلك يضر الفريق.

غيابك، ببساطة، يكشف ما لم يكن واضحًا أثناء وجودك:

  • من يملك المبادرة، ومن يختبئ في الظل.

  • ما إذا كانت الاجتماعات تُنتج قرارات فعلاً، أو مجرد حركة في الهواء.

  • كم شخصًا كان يعمل من أجل الفكرة، وكم منهم كان يعمل من أجلك.

لكن لا يُقصد هنا الغياب كعقوبة أو استعراض. بل كتمرين ناعم على النضج. أن تهيئ الفريق للاحتمال، لا للتبعية. أن لا تربط مصير العمل بوجودك الفعلي، بل برؤية واضحة يفهمها الجميع، وهيكل بسيط يعرف كل فرد مكانه فيه، وثقة تُمنح بالتجريب لا بالتلقين.

وهنا تبرز معضلة في ثقافة القيادة:

كثير من القادة يفتخرون بأنه ”لا شيء يمشي بدونهم“. وكأنهم يخافون أن يُستغنى عنهم.

لكن السؤال الأهم ليس: هل أنا ضروري؟
بل: هل أُنتج قيمة حتى لو لم أكن في كل مكان؟

المشروع الجيد لا يُبنى ليبقيك مشغولًا للأبد. بل ليكبر حتى حين تتنحّى قليلًا. والفريق الجيد لا يُقاس بعدد التوجيهات، بل بقدرته على التصرّف حين تختفي التعليمات.

وإن كنت تخشى الغياب، اسأل نفسك بصراحة:

  • هل لم أعلّم الفريق بما يكفي؟

  • أم أنني خائف أن أكتشف أنني لم أكن لازمًا كما ظننت؟

لا يُقاس القائد الجيد بحضوره فقط، بل بمدى ما يبقى حيًّا بعد غيابه.

شارك هذا الـمقال