”عايز أنهي لون؟“ كان هذا هو السؤال الذي فتح عليّ أبواباً من الأسئلة التي لم تنتهِ إلى يومنا هذا!
كنت قد ذهبت لأشتري هاتفي الذي يمثل لي الكثير، ومثل الكثيرين كنت أنتظر صدوره بفارغ الصبر. أحببت الكاميرا الجديدة وأذهلتني سرعة الهاتف وتفاصيله التقنية، وشاهدت الكثير من الفيديوهات التجريبية والنقدية. أنا حرفياً أعرف كل مكون داخل هذا الجهاز.
ذهبت إلى المتجر لأشتريه، سألني البائع عن الطراز، فأخبرته كخبير تقني، ثم سألني: ”أنهي لون؟“ شعرت لوهلة أن هذا السؤال ليس موجهاً لشخصي البالغ الرشيد! هذا السؤال للطفل في داخلي!
بالله عليك ماذا سيفيد لون الجهاز؟
عندما تأملت في هذا السؤال والشعور الذي راودني حياله، وجدتني أحمل شخصاً آخر في داخلي كنت قد نسيت وجوده! هذا الشخص اختفى بشكل أو بآخر، أشعر بالحرج عند ظهوره، أحاول جاهداً إخفاءه، بل وإنكار وجوده إذا سألني عنه أحد!
هذا الشخص ليس أنا الذي أعرفه، بل هو الطفل الداخلي أو ما يسمى بالـ Inner Child! شعرت أني أفتقده بشدة! أين ومتى رحل؟ هل تتذكر أيام المدرسة حينما كنا ننظر إلى ”الناس الكبيرة اللي عندهم ٣٠ سنة“؟ هل كنت تتخيل أننا سنصبح هذا الشخص؟
متى حدث هذا؟
متى آخر مرة أخذنا فيها مصروف؟
ألم نتفق سوياً أنه عندما نملك الأموال سنشتري كل الحلوى التي نرغب بها؟
سنلعب دائماً عندما ننتهي من الدراسة ولن نصبح مملين مثل الكبار؟
لم أصبحنا نفضل البقاء في المنزل؟ ”وإيه أم كلثوم اللي انت مشغالهالنا دي؟“ ولماذا يعتذر هؤلاء الأطفال عندما نمر وسطهم وهم يلعبون بدلاً من دعوتنا للعب معهم؟ ولماذا ينادي هؤلاء الأوغاد لي بـ ”عمو“؟ أنا طفل مثلكم، ”أنا مش عمو!“
أذكر أنني في إحدى المرات انفعلت على أحد الأطفال عند مناداتي ”عمو“ — بدلاً من أن يشاركني اللعب — متسائلاً عن تاريخ ميلاده، فأخبرني بتاريخ أحدث من تاريخ إنتاج الـ ”ماك بوك“ الذي كنت أمتلكه آنذاك!
حينها أدركت أن لدي ”حوار“ مع نفسي! ولا أقصد بـ ”حوار“ أنه مجرد حديث بالمعنى الفصيح، ولكنه ”حــوار“ بالمعنى الشعبي الدارج ”خناقة يعني“.
أدركت بعد العديد من المحاولات والأخطاء أني لا أجيد الحديث مع نفسي وبالتالي لن أستطيع حل هذا ”الحوار“. لماذا أتعامل مع نفسي عندما أحاول الحديث معها كأنني شخص كبير! لا أحد يرانا ونحن نفعل هذا، فلنكن على طبيعتنا.
نحن أطفال في أجساد بالغة، وتلك الأطفال لطالما عانت مما عانت منه وكانت كل ما تنتظره أن تكبر، لأنها كانت تعتقد أنها حينما تكون كبيرة، سوف تحقق ما تتمنى. لكنها فوجئت أن أول ما حدث لها هو محاولة إخفائها والتبرؤ منها.
شعرت أنني في ورطة حقيقية، فهذا الحوار ليس مع شخص بالغ، بل مع طفل صغير موجوع ويحمل الكثير من الحزن والأذى، ليس فقط من العالم، بل مني أنا أيضاً. وبالتالي لابد من الحديث معه كطفل، ليس كطفل غبي، ولكن كطفل يجب الاستماع إليه.
فهذا الطفل لا أحد في هذه الحياة يعرفه مثلي أنا! أنا أعرف أجمل ما فيه وأعرف كل مساوئه، أعرف معاناته وأعرف حقيقته، حتى أني أعرف شكله عاريًا! لكني لا أعرف هل أحبه فعلًا؟
سألني أحد الأصدقاء في أحد جلسات القلب المفتوح:
إذا أخبرتك أني قد أصبحت مديراً في عملي واشتريت سيارة أحلامي وتزوجت الفتاة التي أحب، وجئت لأشاركك هذه الأخبار فقلت لي — وأنت صادق — أنك لا تستحق كل هذا، أنت مجرد طفيلي لا تستحق كل هذا الخير، ولا تستحق الحب ولا تستحق النجاح، هل هذا يعني أنك تحبني؟
فأخبرته أني أتمنى له كل الخير في العالم، ولكن إذا شعرت بذلك فبالطبع لا! فقال لي: هذا ما تفعله مع نفسك تماماً! كيف تتوقع أن يحبك الناس وأنت لم تحب نفسك! أنت تخاف من الناس وتعتقد أنهم لا يحبوك، فهل أحببت أنت نفسك حتى يحبك الناس؟ هل طمأنت أنت هذا الطفل المرعوب بداخلك حتى يطمئن لك الناس!
افتح جراحك ونظفها وتكلم مع هذا الطفل.
الطفل الذي لولاه لما كنت أنت. فليس جزاؤه بعد أن تحمل كل هذا أن تتحامل عليه أنت أيضاً.
أنت الوحيد الذي يعرف قصته. ورغم ذلك عند أول عثرة توجه أصابع الاتهام إليه. كل شخص آخر يخبرك بنفس المشكلة تقف بجانبه وتخبره أن كل شيء سيصبح على ما يرام، إلا هذا الطفل!
لماذا تخشى أن يخرج للعالم الآن؟
لا أحد يستطيع أذيته بعد الآن وهو معك! يجب أن تحميه وتدلله وتعوضه عن كل ما مر به. ولتعلم أن كل من تراهم في هذا العالم كانوا أطفالاً في يوم ما، ومازالت تلك الأطفال في داخلهم، تنتظر لحظة صادقة آمنة لكي تخرج ”تشم شوية هوا“!
بالطبع لن أخبرك كل ما جرى بيني وبينه، فهو أخبرني أن هذا يجب أن يظل سراً للأبد. لكني وعدته أن أخرجه للعالم … أن نذهب لمطعمنا المفضل، نشتري ساندويتشين، ونضبط الوقت كي تنتهي البطاطس والمشروب مع آخر لقمة. سأعمل جاهداً لا لأخرجه فقط، بل لأعرّفه على أطفال آخرين في أجساد كبيرة مثلي، كُتب عليهم الاختفاء وهو كره لهم.
فهمت أخيراً أني أنا من يحتاج أن يأخذني هو من يدي لنلعب… لا العكس. وأني أدين له بكل هذا الصبر، رغم ذوقه البشع في ألوان الهواتف. وبعد نقاش طويل كنت أفاضل فيه بين الأسود والرمادي، صمّم هو على الأحمر.
دفعت ثمن الهاتف، أمسكته من يده الصغيرة، نظر إلي بابتسامة متهكماً:
”يا عم انت عامل حوار عشان عيل قالك “يا عمو“ … أومال هتعمل إيه بقى لما تسمع أول ”يا حاج“!”