⁠العاشرة مساءً
٨٠٧ كلمة

ترتبط أعظم الاكتشافات العلمية والكونية في كثير من الأحيان بلحظات بسيطة، تخلو من السحر والملحمة.

تروي القصة الشهيرة أن العالم أرخميدس اكتشف قوانين الطفو عندما كان مُسترخيًا في مغطسه، ثم لاحظ فجأة أن حجم الماء المُزاح يُساوي حجم جسمه. لذلك خرج عاريًا مثل المجنون إلى شوارع سرقوسة وهو يهتف: يوريكا (وجدتها).

بينما تروي القصة الأكثر شُهرة لحظة استرخاء إسحاق نيوتن تحت شجرة تفاح، حتى فاجأته تفاحة بسقوطها، لينطلق عقله في رحلة لاستكشاف قوانين الجاذبية غيرت معها الكون إلى الآن.

بعض القصص تصل بالاسترخاء إلى أقصاه، حيث اكتشف الكيميائي أوغست كيكولي البنية الحلقية لجزيء البنزين في نومه على هدي حلم رأى فيه ثعبانًا يعض ذيله.

يصعب التأكد من الدقة التاريخية لتلك القصص، ولكنها للمفارقة لا تثير فينا إحساسًا بالغرابة. هل فاجأتك يومًا أكثر الأفكار إلهامًا وأنت في دورة المياه؟ أو خلال شرود عقلك وأنت تنظر عبر نافذة سيارة مسرعة؟

تعبر الكاتبة الشهيرة إليزابيث غيلبرت عن إحباطها الدائم من أن أجمل أفكار الكتابة تهاجمها دومًا خلال أبسط الأوقات، حينما لا يبحث عقلها عنها من الأساس، أوقات استرخاء لا تمتلك فيها حتى ورقة وقلم لتسجل تلك الأفكار.

ربما أنت لست كاتبًا مثل إليزابيث أو عالمًا عبقريًا مثل نيوتن، ولكن تصف عالمة الأعصاب الإدراكية كالينا كريستوف الأمر بتجربة بشرية عالمية يمر بها الجميع، وهو تأكيد علمي يتحدى تصوراتنا الثقافية أن الإلهام والأفكار الجيدة تحتاج دومًا إلى بيئة مُبالغ في إعدادها وتركيز قاسٍ على الأهداف.

في آخر 15 عام حاول العلماء استكشاف المنطق العلمي الكامن خلف الإلهام الذي يحدث في تلك الأنشطة العادية، أو لماذا تمدنا عقولنا بأكثر أفكارنا تعقيدًا في أكثر أوقاتنا استرخاء؟ وكانت الإجابة في ثلاثة حروف بسيطة: DMN.

في عام 2001 قام طبيب الأعصاب ماركوس رايشل بتجربة في جامعة واشنطن لمراقبة عمل أدمغة متطوعين بالتصوير المقطعي البوزيتروني (PET) خلال أدائهم مهام تتطلب تركيز، مقارنة بعمل الدماغ خلال وقت الراحة. لكنه فوجئ بمناطق معينة في الدماغ كانت أكثر نشاطًا خلال الراحة أو المهام السلبية منها أثناء المهام التفاعلية. وهو ما أدى لاكتشافه شبكة الوضع الافتراضي (Default Mode Network).

وهي ببساطة الحالة التي يكون عليها الدماغ عندما لا يكون مشغولًا بمهمة بعينها، تشبه «وضع الطيران الآلي»، حيث تقوم بنشاط لا يحتاج أي قدر من التركيز لأنك قمت به ألف مرة، مثل الاستحمام والنوم والمشي في الطبيعة.

عندما لا يعمل الدماغ بتركيز على مهمة بعينها، يستمر الدماغ في الدوران ويعمل بمفرده على إعادة هيكلة عناصر المشكلة التي فكر فيها مُسبقًا ويعمل على إعادة ترتيب أجزائها. لكنه يعمل بدون خطة أو إشراف مُكثف، وهذا يدفعه لدمج المعلومات بطرق مختلفة، خاصة وأن شبكة الوضع الافتراضي تربط أكثر من 12 منطقة بالدماغ.

لذلك تتحول لحظة دخول أرخميدس المغطس إلى محاكاة إبداعية تؤدي لإلهام فريد من نوعه، لم يكن ليفكر فيه وهو يكتب أو يدرس، لأن أوقات الكتابة والدرس تحافظ فيها أنظمة التحكم التنفيذي في الدماغ على تفكيرك مركزًا وتحليليًا ومنطقيًا، ولا تسمح بخلق روابط إبداعية حرة.

يمكن لتلك المعلومات المكتشفة حديثًا أن تجعلنا قادرين على تهيئة عقولنا بذكاء لاستقبال الإلهام، مثلما تضع هوائيًا في الاتجاه المناسب لاستقبال الإشارات.

1- امتلك أولًا السؤال والمُعضلة قبل أن تسمح للعقل بالشرود

بالتأكيد فكر أرخميدس في لغز الطفو قبل أن يكتشف قوانينه، وكذلك فكر أوغست كيكولي في بنية البنزين قبل أن يكتشفها.


يقول ريكس جونغ، أخصائي علم النفس العصبي بجامعة نيو مكسيكو، إن الإلهام يمكن تخيله مثل رقصة تبدأ من أجزاء في دماغ تنتقي فكرة بعينها وتفكر في جوانبها وتطبيقاتها في الواقع، وهو ما نسميه شبكات التحكم المعرفي، ثم تأتي شبكة الوضع الافتراضي في أوقات الراحة لخلق روابط فريدة من نوعها.

2- اخلق في يومك مساحة للأنشطة العفوية التي يحتاجها العقل للانتقال للوضع الافتراضي

يرى جون كونيـوس (John Kounios)، عالم الأعصاب والمؤلف المشارك لكتاب Eureka Factor، أن العقل يحتاج إلى أنشطة تخلو من أي بنية صارمة، أنشطة يُمكن للعقل معها أن يتحرك بشكل فوضوي ويصنع روابط جديدة بين الأفكار.


ربما عليك تخصيص مزيدًا من الوقت للمشي في الطبيعة، حمام ساخن لمدة أطول من المعتاد، أو الاستماع إلى الموسيقى. تسمح تلك الأنشطة للعقل بالشرود الحر دون قلق. ولذلك يُحذرنا جون من القيام بالشرود الحر خلال أنشطة تحتاج إلى تدخل عاجل من العقل التنفيذي مثل قيادة السيارات أو الاعتناء برضيع.

3- لا تحوّل الاسترخاء إلى مُهمّة

ترى كالينا كريستوف أننا لا يجب أن نعامل تلك الأنشطة الحرة مثل المشي والاستحمام كما نعامل مهام العمل. لا يجب أن نشعر بالذنب لو استمرت طويلًا دون نتيجة، ولا أن نثقلها بتوقعات مُتعمدة، لأن العمدية والتركيز على الإنتاجية ينقلان عقولنا إلى شبكة أخرى يفقد معها التفكير عفويته.

4- احظَ بنوم جيد

يقول جون كونيـوس إن خلال النوم تتحول المعلومات التي استقبلتها في حالة هشة خلال النهار إلى حالة أكثر ديمومة قادرة على صنع روابط أفضل. ولذلك عليك أن تولي الانتباه للمرحلة الفاصلة بين النوم العميق واليقظة التامة، والفترة التي تلي الاستيقاظ من نوم عميق وكافٍ، لأن العقل يمتلك فيها الحرية للتفكير بشكل حر. ربما عليك أن تضع ورقة ودفترًا بجوار فراشك للاستعداد لتلك الأوقات.

ربما كل ما يفصلك عن أشد أفكارك إلهامًا وإبداعًا، هو وقت بسيط للتأمل دون قيود أو Deadlines أو تركيز، حالة تسمح فيها للعقل بالطواف بحرية وخلق روابطه وصنع سحر لا يمكن استعجاله أو إكراهه على الحضور.

  • https://www.nationalgeographic.com/magazine/article/the-science-of-why-you-have-great-ideas-in-the-shower

شارك هذا الـمقال