لم أكن أعرف أنني أختبئ.
كنت أقول إنني أرتاح فقط. أبتعد قليلًا، أُرتّب نفسي.
لكنني مع الوقت، لم أعد أرد على الرسائل، أؤجل اللقاءات، أُطفئ إشعارات هاتفي، وأملأ يومي بأعمال صغيرة لا تتطلب أي ظهور.
كان عقلي يبرر ذلك كله كحاجة مفهومة: ضغط، إرهاق، مساحة خاصة. لكن جسدي كان يفضحني: نوم مضطرب، حركة بطيئة، مزاج متقلب، وتعب لا يتناسب مع أي مجهود حقيقي.
شعرت أنني لا أنتمي لأي شيء، لا للأيام، ولا للناس، ولا حتى لنفسي. كنت أعيش انكماشًا داخليًا حقيقيًا، لا هدف له سوى تجنّب الناس. كل لقاء يحمل احتمال الحرج، أو سوء الفهم، أو الشعور بأنني لا أعرف كيف أكون كما يُتوقع مني.
حدث لي ما يُسمى بـ انخفاض العتبة الاجتماعية (Reduced Social Tolerance)، وهو اسم لطيف لشيء مزعج جدًا. أن تصبح أبسط المحادثات تحديًا، وأصوات البشر ثقيلة، ونظراتهم كأنها فحص. أن تدخل مكانًا مزدحمًا فترتبك من عدد الأجساد والكلمات والأنفاس.
جهازي العصبي لم يعد يتحمل التحفيز العادي. لقد اختبرت عزلة طويلة بما يكفي لإعادة ضبط حساسيتي تجاه العالم، لكن لا بالاتجاه الذي كنت أريده.
عشت هكذا لأشهر. أتكلم أقل، وأفكر أكثر. أراوغ المواعيد، أخاف من الهاتف، أتحايل على الذكريات. والناس — رغم شوقك إليهم — إلى فكرة مؤجلة.
لم أعد إلى العالم دفعة واحدة، بل خرجت كما يخرج أحدهم من نفق طويل، سلسلة من اختبارات صغيرة: أن أخرج دون هدف واضح، فقط لأن الجو حلو اليوم. أن أكون وسط الناس دون توقعات. أن أتكلم دون أن أشعر أنني أثبت شيئًا. أن أكون معجبًا بحديث الناس لا منتظرًا لدوري في الكلام. أن أرد على رسالة دون أن أنتظر أن تكون جملتي مثالية.
في الفلسفة الطاوية، هناك مفهوم قديم اسمه wu wei، ويُترجم تقريبًا إلى ”اللانَفْع“ أو الفعل بلا جهد. لا يعني الكسل، بل يعني أن تتحرك كما يتحرك الماء: دون صراع، دون محاولة لفرض نفسك على العالم. وهذا بالضبط ما تعلّمته مع الوقت.
أنا موجود، لا لأنني أُنتج أو أتفاعل، بل فقط لأنني حاضر في زمني. وهذا الاستسلام اللطيف للإيقاع كان أفضل من محاولة التحكم فيه.
بعض مدارس الزِن يقولون إن الشخص لا ”يخرج“ إلى العالم، بل يتخلى عن مقاومته له. أنك حين تتوقف عن السعي لتكون شيئًا آخر، تبدأ في الظهور كما أنت.
وهذا ما حدث لي، بطريقة ما.
أراقب نفسي في الأماكن المألوفة: هل أشعر بالأمان؟ هل يمكنني أن أبتسم دون جهد؟ هل يمكنني أن أقول ”لا“ دون أن أشرح؟
وهنا بدأت ألاحظ أنني أعود. الناس لم يتغيروا. لكنني أنا لم أعد أحاول إدارتهم داخليًا. لم أعد أرتب جُملي كما لو كنت في اختبار. ولم أعد أخاف أن أبدو أقل مما يجب.
خرجت كما يخرج من تعوّد العتمة وبدأ يرى الظلال: خائف قليلًا.. وهذا الخروج الخجول — بحدوده، ببطئه، بقلقه — كان بداية الخروج الحقيقي.
وتقول المتصوفة:
وإذا صحّ الفؤاد، استراح في الصحبة كما استراح في الخلوة.