⁠الخامسة عصرًا
٥٠١ كلمة

قبل أيام، وجدت نفسي في المطبخ بلا هدف واضح، الضوء الصباحي يتسلل من النافذة يرسم خطوطًا ذهبية على الطاولة. وقفت أتأمل الرفوف، أبحث عن شيء أصنعه بيدي، شيء يمنح اليوم شكلًا مختلفًا.

توقفت عيناي عند كيس الدقيق.

لا أرغب في خبز شيء لذيذ فحسب، ولكن لدي شعور غريب بأني أحتاج أن ألمس شيئًا يتحول من لا شيء إلى شيء كامل، ببطء، بصمت، خطوة تتبعها خطوة، فقررت أن أعجن.

1- نخلط الدقيق بالماء

أول خطوة، بسيطة إلى حد السذاجة، لكنها تضع البداية.

شيء يشبه تلك اللحظات التي نأخذ فيها القرارات ونحن لا نعرف بالضبط إلى أين تقودنا.

الدقيق متفرق، الماء بلا شكل، لكنهما معًا يصنعان احتمالًا ما.

تمامًا مثلنا، في بعض اللحظات يكفي أن نمزج ما تبعثر فينا، ونبدأ من نقطة لا تبدو عظيمة.. لكنها بداية.

2- نبدأ بالعجن

العجن حركة متكررة، تشبه تلك الأيام التي نعيد فيها المحاولة رغم أننا متعبون.

نضغط، نطوي، نعيد الضغط.

الحياة تعجننا بنفس الطريقة: تارة بالعمل، تارة بخسارة لم نتوقعها، تارة بصبر اضطررنا إليه.

وفي كل مرة نظن أننا سننهار، نكتشف أننا صرنا أكثر تماسكًا، ولا نلين إلا بعد أن يُعاد تشكيلنا مرات كثيرة، مثل العجين.

3- نترك العجين ليستريح

الإلحاح لا يصنع خبزًا جيدًا، يختمر العجين حين نبتعد عنه قليلًا.

أغطيه وأمضي وأنا أفكر في كل المشكلات التي لم تُحل إلا حين توقفت عن ملاحقتها.

هناك أشياء في حياتنا تحتاج أن ننحيها جانبًا لتلتقط أنفاسها، وأحيانًا نحتاج نحن أن نلتقط أنفاسنا.

العالم يهديني حكمة بسيطة: ”الراحة جزء من التقدم“.

4- نغطيه وننتظر

تحت الغطاء لا أرى شيئًا يحدث، لكن شيئًا يحدث!

أثناء التخمير يحدث كل شيء دون أن نراه: يتغير القوام، تتشكل الفقاعات، يولد شيء جديد لم يكن موجودًا قبل ساعة.

هكذا نحن أيضًا، هناك فترات في حياتنا تبدو راكدة، لا شيء يتحرك، لا شيء يتغير، ثم ننظر إلى الوراء بعد سنة، ونُدهش!

متى أصبحت هذا الشخص؟

الانتظار فعل صامت، لكنه يحوّل الأشياء.

5- نشكّل العجين كما نحب

حين يرتاح العجين وينضج، يصير طيعًا تحت اليد.

لا يقاومنا، يلين، ويتقبل الشكل الذي أختاره له.

أتأمله: هذا يشبهنا حين نصل إلى تصالح ما مع أنفسنا.

نهدأ، فنصبح قادرين على تشكيل أيامنا وعلاقاتنا وحدودنا.

العجين لا يأخذ شكله إلا حين يستقر، ونحن أيضًا.

6- ندخله الفرن، وننتظر النتيجة

الفرن هو الجزء الذي لا سيطرة لنا عليه بالكامل، الحرارة تُكمل ما بدأناه، وتقدم لنا النتيجة كما هي.

أحيانًا مثالية، وأحيانًا أقل مما توقعنا، لكن دائمًا فيها شيء جميل، فقط لأنها من صنع أيدينا.

هكذا الحياة، نبذل ما نستطيع، نفعل ما في وسعنا، ثم نترك الباقي لما لا نملك.

ونتقبل ما يأتي بامتنان صغير، يكفي ليمنحنا قوة المحاولة من جديد.

رائحة الخبز تملأ المطبخ الآن.

أمسك القطعة الأولى، أتأملها بين يديّ، قبل ساعتين لم تكن موجودة، والآن هي هنا: دافئة، ذهبية، حقيقية.

صنعتها أنا، من لا شيء تقريبًا.

أدرك الآن أنني لم أكن أعجن دقيقًا فحسب، كنت أعجن يومي كله، ألين زواياه الحادة، أمنحه شكلًا أستطيع أن أتحمله.

المخبوزات تذكرني دائمًا بشيء أنساه كثيرًا: أن الأشياء البسيطة قادرة على صنع سعادة.

لا نحتاج إلى الكثير، لا نحتاج إلى معجزات.

بكل بساطة: قليل من الماء، قليل من الصبر، دقائق من الانتظار، ثم شيء دافئ يولد بين يديك من جديد.

شارك هذا الـمقال