كنتُ زمان شخصًا لا يعرف الخوف. أدخل أي تجربة بلا تردد، أقول رأيي بلا حساب، وأبدأ أي شيء وكأنني أعرف تمامًا ما أفعله. لم أكن أذكى، ولا أكثر جرأة بالضرورة، كنت فقط أقل معرفة بما يمكن أن يحدث، أقل انتباهًا للأخطاء المحتملة، وأكثر انشغالًا بفكرة التجربة نفسها.
لا أعرف متى بالتحديد بدأت أثقل. هناك لحظة ما، لا أستطيع الإشارة إليها بإصبع، تحوّلت فيها الخطوات إلى معادلة، والكلمة القادمة إلى حساب، والقرار البسيط إلى احتمالات تتشعّب أمامك كالأغصان.
ما أعرفه هو أنّ هناك زمنًا سابقًا كنت أدخل فيه الأشياء بخفة من لم يكتشف بعد أن كل باب يمكن أن يُغلق، وأن كل بداية يمكن أن تنحرف عن الطريق.
ثم تغيّر كل شيء.
الآن.. وقبل أي كلمة، أراجعها في رأسي مرتين. أفكر في ما قد يُفهم، وفي ما قد يُساء فهمه، وفي كل الاحتمالات الصغيرة التي قد تغيّر المعنى أو النتيجة.
أعرف العواقب المحتملة، وأرى الصورة من كل الجهات، فأخاف. ما زلت أُخطئ التقدير أحيانًا، أدخل في الأشياء دون أن أرى الصورة كاملة، وكلما عرفت أكثر، زاد خوفي أكثر، كأن المعرفة لا تمنحنا الأمان كما كنت أظن.
المعرفة كعبء
أتذكر أول عمل لي، كنت واثقة جدًا مما أفعل، أتحرك بحماس من يظن أن العالم ينتظر براعته، أرى نفسي بوضوح مدهش، وبغرور عظيم أظن أني أقدّم ”أجمد حاجة في الدنيا“. لم يكن في بالي احتمال الخطأ أصلًا، ولا فكرة أن هناك ما هو أفضل أو أصح.
وأول مرة سافرت فيها بمفردي وأنا صغيرة، اتخذت القرار في أقل من نصف ساعة. كنت متأكدة أني ”شاطرة كفاية“ وأن الطرق كلها ستعزف لي السلام حين أمشي فيها.
لم أفكر كثيرًا، لم أخف، فقط تحمست.
كنت أذهب إلى المشكلات بقلب جامد، لأن أسوأ ما يمكن أن يحدث وقتها هو أن يشتكيني أحد لأهلي.
الدنيا بسيطة، والأثمان صغيرة، والخيبات محتملة.
أشتاق لذلك الطيش القديم
أحيانًا أشتاق لتلك الخفة التي كانت تجعلني أبدأ دون خطة، وأحب دون قلق، وأحلم دون خوف من أن يخيب شيء. كنت أمشي بخفة، لأنني لم أكن أعرف بعد كم يمكن أن تُثقِلنا المعرفة.
كانت الطمأنينة تأتي من الجهل، من أني لم أكن أرى كم الأشياء معقّدة، ولا كم الاحتمالات التي يمكن أن تغيّر كل شيء في لحظة.
اليوم أعرف أكثر، لكنني أشتاق لتلك الغفلة الجميلة التي كانت تجعلني أصدق أن كل البدايات آمنة. وأعترف أن المعرفة أخذت مني شيئًا لا يُستعاد.
هل يمكن أن نعود مطمئنين؟
في الوقت نفسه، هل يمكن أن نعود إلى تلك الطمأنينة الأولى؟ كيف أحتفظ بما عرفت عن العالم دون أن أخاف منه؟ وهل يمكن استعادة تلك الراحة؟
أفكر بأن كل ما يمكننا فعله هو أن نتعلّم كيف نحمل خوفنا دون أن نتوقف.
أن نقبل بأن المعرفة لا تُطمئننا دائمًا. بل على العكس. المعرفة تبدّل فينا شيئًا لا يُرى، نطلّ منها على احتمالات كثيرة، ووجوه متعددة للحقيقة.
من وقتها، لا يعود شيء كما كان. ربما لا خلاص من هذا الثقل الذي تتركه المعرفة فينا، لكن لعلها الطريقة الوحيدة لنرى العالم كما هو، لا كما نتمنى أن يكون.
أن نعرف يعني أن نفتح أعيننا، حتى لو أوجعنا الضوء.
وحين نعرف، تبدأ أول فصول البصيرة، ومعها أول مخاوفنا.