كل ما أعرفه أننا لم نعد نتحدث فجأة، الأمر أشبه بباب صُفق بعنف. أحدنا توقف عن الرد على اتصالات ورسائل الآخر، فيما بقي الأخير مضطربًا، يحوم حول هواجسه: ما الذي حدث؟ هل أصابه مكروه؟ هل صدر مني ما أزعجه؟ ألا يفتقدني كما أفعل؟ أكانت علاقتنا بتلك الهشاشة؟ يتلاشى الغضب على مهل ويبقى بداخل واحد منا لوم مكبوت لي وله.
كنت في نحو التاسعة ذات يوم مدرسي عادي ألقي التحية على فتاة اعتدنا قضاء استراحة الغذاء معًا، حين لاحظت برودها وتوقفها عن إبداء أي رد فعل. لم أفهم، ما بها؟ كنا على ما يرام البارحة، فلمَ تتعامل كأني لست أمامها؟ شاركتها حيرتي مرارًا فلم تجب. نصحني أبي بأن التمس لها سبعين عذرًا لعل هناك خطبًا ما، لكني لم أتحمل أن يحيلني أحدهم إلى شبح، فانصرفت عنها.
الجوستينغ ليس بظاهرة غريبة، بل مفهوم ضمته قواميس مثل ميريام وبستر (2017)، وتوغّل في عصرنا الرقمي إلى العلاقات الرومانسية والصداقات وبيئات العمل. كتب دومينيك بيتمان، أستاذ الإعلام والعلوم الاجتماعية، عنه كتابًا كاملًا في محاولة لفهم عمه الذي قطع صلته بعائلته ذات صباح وسافر بعيدًا بعدما غيّر هويته. خلص بيتمان إلى أن الاختفاء أحد أوجه الانتحار الرمزي الذي يدفع من حولنا للغرق في الذنب والمرارة، وفي الأعماق استفهام واحد: لماذا؟
لأن التجاهل يعفينا من المواجهة. البعض يفتقد إلى النضج العاطفي. منا من يملك نمطًا تجنبيًا (avoidant behavior) يتحسس من أي عتاب أو خلاف فيتهرب أو يتخذ موضعًا دفاعيًا. يظل يخطو نحوك، قبل أن يتراجع بعدها بخطوات أوسع، ثم يعود مجددًا.
في استطلاع أجراه لوغان يوري مدير قسم العلاقات في تطبيق هينج:
-
40% قالوا: ”لا أدري كيف أشرح سبب عدم رغبتي في رؤيته مجددًا“.
-
ثلث المشاركين: ”لم أرتح لفكرة رفض شخص مباشرة“.
-
البقية رأوا أن الاختفاء أقل إيلامًا من الوضوح.
حللت الباحثة كاثرين هولمز الأثر النفسي على من تعرض للجوستينغ بعد أن كشفت إحدى الدراسات عن أنه يُثير نفس مناطق الألم في الدماغ تقريبًا عند التعرض للرفض. وخلصت إلى أننا بعد التجربة نصبح: أقل ثقة، أكثر شكًا، وأبطأ في أخذ الآخرين بجدية.
ارتأت سيمون دي بوفوار في كتابها ”الجنس الآخر“ أن الانسحاب الصامت هو هروب من المسؤولية تجاه الآخر، وأن الصمت يمكن أن يكون وسيلة تحكم، خصوصًا أن المرأة غالبًا تُترك في حالة انتظار لرد أو قرار.
المفارقة أن الاستطلاع نفسه سأل المستخدمين عن الطريقة التي يفضلون أن يُعاملوا بها إن لم يكن الشخص مهتمًا بهم، فأجاب 85%: ”الرفض مؤلم، لكنني أُفضّل المعرفة“. وهو ما يتفق مع قول دي بوفوار: المواجهة نزاهة، لأنها تعترف بكرامة من أمامنا وحدوده.
ربما الأفضل عند التعرض للتجاهل أن لا نندفع بردود نندم عليها. تواصل مرة أو مرتين كحد أقصى، وتذكر أنك قد لا تتلقى ردًا. من ابتعد قرر ببساطة عدم إشراكك في أسبابه، وأي محاولة لاستعادته ستكلفك كثيرًا من كرامتك وكبريائك.
أخبرني صديق أنه توقف عن الرد على فتاة واعدها لعامين لأنه لم يشعر فجأة بالرغبة في ذلك فحسب. لذلك الأفضل أن تفرغ غضبك على ورقة أو مع صديق تثق به، وتركّز طاقتك في رياضة، عمل، أو أي نشاط يمنحك شعورًا مختلفًا.
في حكايتي السابقة التقيت مجددًا بتلك الفتاة قبل تخرجنا. ضمتني بمرح، وتجاذبنا أطراف الحديث. لم أبتعد ولم أقترب. فأنا أيضًا ما زلت أرتكب مختلف الحماقات في عشرينياتي وأحاول الاعتياد على المواجهة. أعرف فقط أن أيًّا منا قد يختلي بنفسه لوقت ما. فإن عاد لك عزيز تفكر: هل كان ذلك لطبعه؟ لخصومة؟ لظرف ما؟ وإن لم يعد، ”دع الأيام تفعل ما تشاء، وطب لنفسك إذا حكم القضاء“ كما قال الإمام الشافعي.